تأملات <<

مقالات وتعليقات لؤي صافي على الأحداث الجارية وعلى قضايا الإسلام والحداثة وحقوق الإنسان والمشاركة السياسية.

الثلاثاء، يوليو 22، 2008

احتفالات النصر بين ثقافة الحرية وثقافة الاستلاب

تكرس احتفالات النصر في العالم العربي منذ قرون لتكريم القيادات العليا في الدولة، ووسمها بالالقاب العلوية الرفيعة مثل القيادة الملهمة، والقيادة الفذة، والقيادة الخالدة، والقيادة العظيمة، وغيرها من الألقاب التي ترفعها إلى مستويات علوية بعيدة عن معاني القيادة السياسية والاجتماعية. استقبال الأسرى المحررين من السجون الإسرائيلية خطوة غير مسبوقة في عالم العرب الحديث، ذات دلالات بعيدة وعميقة تستحق الوقوف عندها للتأمل والفهم.

بقعة الضوء تركزت خلال الأسبوع الماضي على الأسرى المحررين، وكلهم جنود في معركة الكرامة والدفاع عن الحقوق المستمرة منذ قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين. ليس منهم رجل واحد يمتلك رتبة قيادية عسكرية أو مدنية رسمية. عميد الأسرى، سمير القنطار، وقع في أيدي السلطات الإسرائيلية بعد أن نفذ عملية عسكرية في شمال فلسطين قبل ثلاثين سنة، بقي خلالها مغمورا مهملا سنوات طويلة إلى أن قرر حزب الله جعل مصيره ومصير إخوانه الأسرى هما وطنيا، ومسؤولية قومية أخلاقية.

أن يكون الأسرى موضع احتفالات شعبية ورسمية، ومحور الفخر والتكريم، فهذا حدث مهم في تطور الوعي السياسي والاجتماعي، وجهد طيب مبارك نحو استعادة ثقافة الحرية والكرامة المفقودة اليوم في عالم العرب. لقد أدت جملة من التطورات السياسية التي أعقبت معارك الاستقلال من الاستعمار الغربي في منتصف القرن الماضي إلى تكريس ثقافة الاستلاب التي تحول خلالها المجتمع العربي الحديث إلى مجتمع سادة وعبيد. هذه الثقافة التي بدأت سماتها تتشكل في عالم العرب خلال العصر المملوكي، مع تأجج الصراع الدموي على السلطة، واستخدام السلطان البطش والترويع والتنكيل لإسكات الخصوم وكسر شوكتهم. ثم اكتملت ثقافة الاستلاب هذه في نهايات الحقبة العثمانية التي شهدت مجازر مشينة ارتكبها مستبدون باسم تحقيق الأمن الاجتماعي كالحاكم التركي في بلاد الشام جمال الدين باشا المعروف بالسفاح.

التحول من ثقافة الحرية إلى ثقافة الاستلاب مر عبر رحلة طويلة مليئة بالأحداث تحتاج إلى حديث خاص للتأريخ لها وفهم أسبابها. ما يهمنا في هذا السياق تحديد معنى ودلالات هذه النقلة. لقد عاش العرب أحقابا عديدة في صحراء قاحلة بعيدا عن المساحات الحضارية السائدة قبل انتشارهم في أصقاع المعمورة مع ظهور الإسلام. وآثر العرب شظف العيش في صحراء زهد فيها الملوك الطامحون طلبا للحرية، وهربا من هيمنة الإمبراطوريات الكسروية والقيصرية. وشكلت المنظومة القبلية حصنا منيعا للحريات الفردية وقاعدة للمشاركة في قرارت السلم والحرب من خلال مجالس شيوخ القبيلة. وساوت تلك المنظومة بين كرامة أفرادها فحرصت على الدفاع عن كل الأفراد ونصرتهم حين تعرضهم للخطر أو العدوان تحت شعار “أنصر أخاك ظالما أو مظلوما.” وبلغ التضامن الداخلي لأفراد القبائل العربية مبلغا بعيدا إلتزمت عبره القبيلة بالدفاع عن أفرادها وحمايتهم دون اعتبار لمكانتم الاجتماعية، سادة أكانوا أم أفرادا، شيوخا أم فتيانا. فمن آذى فردا من أفراد القبيلة آذى الجميع، ومن اعتدى على أحد رعاتها الصغار فكأنه اعتدى على شيخ من شيوخها الكبار.

جاء الإسلام ليعزز التضامن الداخلي بين أبناء المجتمع. لم يلغ الإسلام مبدأ التضامن الداخلي أو شعار “أنصر أخاك ظالما أو مظلوما” بل أخضعه لمنظومة قانونية تجعل العدل أساسا للعلاقات الاجتماعية والسياسية، وتدعو أبناء المجتمع لمنع الظلم والتصدي للظالم. فدعى الرسول إلى تناصر أبناء المجتمع بالأخذ على يد الظالم مهما كان موقعه السياسي وشأنه الاجتماعي، مجيبا السائل عن كيفية نصرة الأخ إذا كان ظالما بقوله: “تمنعه من ظلمه.” وأدى اعتماد العدل قانونا حاكما للعلاقات السياسية إلى توسيع دائرة التضامن خارج الحدود القبلية والعرقية بل والدينية. فشكل ميثاق المدينة الذي أقره رسول الله أساسا للتضامن بين المسلمين واليهود على قاعدة احترام الخصوصيات القبلية والدينية لسكان المدينة من جهة والتعاون لرد الظلم والعدوان مهما كان مصدره من جهة أخرى.

إضفاء سمات العلو والسمو على القيادة أمر طارئ مرتبط بثقافة الاستلاب التي تشكلت خلال عصور التراجع الحضاري والتخلف المعرفي. لم يعتبر العرب قياداتهم فذة وملهمة سواء في المرحلة الجاهلية أوالراشدة. بل لم يعتبر المسلمون الأوائل رسول الله، وهو الملهم الوحيد في تاريخ العرب، قائدا متعاليا عن المسائلة. حصر المسلمون الأوائل الإلهام في دائرة النبوة والوحي، وبقي الرسول فردا من أفراد المجتمع الإسلامي الناشئ خاضعا للمسائلة والمشورة في كل أحكامه السياسية. الأمثلة كثيرة، لعل أكثرها بروزا تمرد المسلمين على قرار المصالحة الذي أدى إلى قيام صلح الحديبيية بين مكة والمدينة. فقداعترض المسلمون بشدة على قبول الرسول بشروط رأها صحبه مجحفة، تضمنت إلزامهم العودة إلى المدينة دون إتمام شعائر العمرة. ولم يتراجعوا عن تمردهم إلى بعد أن تحلل رسول الله من مناسك العمرة، وبالتالي إلغاءه الأساس الديني الذي انبنى عليه اعتراضهم السياسي.

ثقافة الحرية إذن تضع القيادة السياسية في دائرة المحاسبة والتشاور مهما كانت صفة ومكانة القائد، دون الإخلال بقواعد الولاء والاحترام. بينما تحول ثقافة الاستلاب القيادة السياسية العليا إلى رمز قدسي فوق المحاسبة والمسائلة وتلغى الدور المهم للقيادة في الحياة الجماعية. ولأن ثقافة الاستلاب تتجاهل أهمية الفعل القيادي بوصفه وظيفة مجتمعية تتمثل بالريادة وحل المشكلات والتصدي للتحديات اليومية التي تواجه المجتمع، فإن الضعف والوهن وضياع الطاقات الاجتماعية هي أولى الثمرات المّرة التي تحصدها هذه الثقافة. الذل والعبودية ثمرتان أخريان من ثمرات هذه الثقافة التي تقسم المجتمع إلى سادة وعبيد، وهاتان الثمرتان ليستا محصورتين في العبيد بل تشملات السادة أيضا، لأن سيادتهم منقوصة وأخلاقهم أخلاق العببد. وصدق القائل: “ملوك العبيد ملوك عبيد.” فمجتمع الاستلاب مجتمع يتحكم فيه القوي في الضعيف لكنه مجتمع ضعيف، لأنه مجتمع عبيد يمكن لفرد أو بضعة أفراد التحكم فيه من خلال التحكم بسادته الذين يتصفون باخلاق العبيد. فالسادة في مجتمع الاستلاب عبيد نقلتهم الأقدار إلى موقع القيادة دون التحلي بصفات الحرية.

مجتمع الأحرار الذي يليق بكرامة الإنسان هو المجتمع الذي يتساوى فيه أفراده في الكرامة والاحترام، وهو المجتمع الذي يتضامن فيه الجميع للدفاع عن الحقوق وتكريس دولة القانون. مجتمع الأحرار هو الذي يقدّر ابطاله لا من خلال موقعهم الرسمي لكن من خلال مواقفهم وخدماتهم، يكرمهم سواء كانوا رؤساء أو جنودا. الاحتفال بتحرير الأسرى في بيروت خطوة غير مسبوقة في تاريخ العرب الحديث، لعلها تشكل بوادر نقلة حقيقية من ثقافة الاستلاب إلى ثقافة الحرية.