تأملات <<

مقالات وتعليقات لؤي صافي على الأحداث الجارية وعلى قضايا الإسلام والحداثة وحقوق الإنسان والمشاركة السياسية.

الثلاثاء، يوليو 22، 2008

احتفالات النصر بين ثقافة الحرية وثقافة الاستلاب

تكرس احتفالات النصر في العالم العربي منذ قرون لتكريم القيادات العليا في الدولة، ووسمها بالالقاب العلوية الرفيعة مثل القيادة الملهمة، والقيادة الفذة، والقيادة الخالدة، والقيادة العظيمة، وغيرها من الألقاب التي ترفعها إلى مستويات علوية بعيدة عن معاني القيادة السياسية والاجتماعية. استقبال الأسرى المحررين من السجون الإسرائيلية خطوة غير مسبوقة في عالم العرب الحديث، ذات دلالات بعيدة وعميقة تستحق الوقوف عندها للتأمل والفهم.

بقعة الضوء تركزت خلال الأسبوع الماضي على الأسرى المحررين، وكلهم جنود في معركة الكرامة والدفاع عن الحقوق المستمرة منذ قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين. ليس منهم رجل واحد يمتلك رتبة قيادية عسكرية أو مدنية رسمية. عميد الأسرى، سمير القنطار، وقع في أيدي السلطات الإسرائيلية بعد أن نفذ عملية عسكرية في شمال فلسطين قبل ثلاثين سنة، بقي خلالها مغمورا مهملا سنوات طويلة إلى أن قرر حزب الله جعل مصيره ومصير إخوانه الأسرى هما وطنيا، ومسؤولية قومية أخلاقية.

أن يكون الأسرى موضع احتفالات شعبية ورسمية، ومحور الفخر والتكريم، فهذا حدث مهم في تطور الوعي السياسي والاجتماعي، وجهد طيب مبارك نحو استعادة ثقافة الحرية والكرامة المفقودة اليوم في عالم العرب. لقد أدت جملة من التطورات السياسية التي أعقبت معارك الاستقلال من الاستعمار الغربي في منتصف القرن الماضي إلى تكريس ثقافة الاستلاب التي تحول خلالها المجتمع العربي الحديث إلى مجتمع سادة وعبيد. هذه الثقافة التي بدأت سماتها تتشكل في عالم العرب خلال العصر المملوكي، مع تأجج الصراع الدموي على السلطة، واستخدام السلطان البطش والترويع والتنكيل لإسكات الخصوم وكسر شوكتهم. ثم اكتملت ثقافة الاستلاب هذه في نهايات الحقبة العثمانية التي شهدت مجازر مشينة ارتكبها مستبدون باسم تحقيق الأمن الاجتماعي كالحاكم التركي في بلاد الشام جمال الدين باشا المعروف بالسفاح.

التحول من ثقافة الحرية إلى ثقافة الاستلاب مر عبر رحلة طويلة مليئة بالأحداث تحتاج إلى حديث خاص للتأريخ لها وفهم أسبابها. ما يهمنا في هذا السياق تحديد معنى ودلالات هذه النقلة. لقد عاش العرب أحقابا عديدة في صحراء قاحلة بعيدا عن المساحات الحضارية السائدة قبل انتشارهم في أصقاع المعمورة مع ظهور الإسلام. وآثر العرب شظف العيش في صحراء زهد فيها الملوك الطامحون طلبا للحرية، وهربا من هيمنة الإمبراطوريات الكسروية والقيصرية. وشكلت المنظومة القبلية حصنا منيعا للحريات الفردية وقاعدة للمشاركة في قرارت السلم والحرب من خلال مجالس شيوخ القبيلة. وساوت تلك المنظومة بين كرامة أفرادها فحرصت على الدفاع عن كل الأفراد ونصرتهم حين تعرضهم للخطر أو العدوان تحت شعار “أنصر أخاك ظالما أو مظلوما.” وبلغ التضامن الداخلي لأفراد القبائل العربية مبلغا بعيدا إلتزمت عبره القبيلة بالدفاع عن أفرادها وحمايتهم دون اعتبار لمكانتم الاجتماعية، سادة أكانوا أم أفرادا، شيوخا أم فتيانا. فمن آذى فردا من أفراد القبيلة آذى الجميع، ومن اعتدى على أحد رعاتها الصغار فكأنه اعتدى على شيخ من شيوخها الكبار.

جاء الإسلام ليعزز التضامن الداخلي بين أبناء المجتمع. لم يلغ الإسلام مبدأ التضامن الداخلي أو شعار “أنصر أخاك ظالما أو مظلوما” بل أخضعه لمنظومة قانونية تجعل العدل أساسا للعلاقات الاجتماعية والسياسية، وتدعو أبناء المجتمع لمنع الظلم والتصدي للظالم. فدعى الرسول إلى تناصر أبناء المجتمع بالأخذ على يد الظالم مهما كان موقعه السياسي وشأنه الاجتماعي، مجيبا السائل عن كيفية نصرة الأخ إذا كان ظالما بقوله: “تمنعه من ظلمه.” وأدى اعتماد العدل قانونا حاكما للعلاقات السياسية إلى توسيع دائرة التضامن خارج الحدود القبلية والعرقية بل والدينية. فشكل ميثاق المدينة الذي أقره رسول الله أساسا للتضامن بين المسلمين واليهود على قاعدة احترام الخصوصيات القبلية والدينية لسكان المدينة من جهة والتعاون لرد الظلم والعدوان مهما كان مصدره من جهة أخرى.

إضفاء سمات العلو والسمو على القيادة أمر طارئ مرتبط بثقافة الاستلاب التي تشكلت خلال عصور التراجع الحضاري والتخلف المعرفي. لم يعتبر العرب قياداتهم فذة وملهمة سواء في المرحلة الجاهلية أوالراشدة. بل لم يعتبر المسلمون الأوائل رسول الله، وهو الملهم الوحيد في تاريخ العرب، قائدا متعاليا عن المسائلة. حصر المسلمون الأوائل الإلهام في دائرة النبوة والوحي، وبقي الرسول فردا من أفراد المجتمع الإسلامي الناشئ خاضعا للمسائلة والمشورة في كل أحكامه السياسية. الأمثلة كثيرة، لعل أكثرها بروزا تمرد المسلمين على قرار المصالحة الذي أدى إلى قيام صلح الحديبيية بين مكة والمدينة. فقداعترض المسلمون بشدة على قبول الرسول بشروط رأها صحبه مجحفة، تضمنت إلزامهم العودة إلى المدينة دون إتمام شعائر العمرة. ولم يتراجعوا عن تمردهم إلى بعد أن تحلل رسول الله من مناسك العمرة، وبالتالي إلغاءه الأساس الديني الذي انبنى عليه اعتراضهم السياسي.

ثقافة الحرية إذن تضع القيادة السياسية في دائرة المحاسبة والتشاور مهما كانت صفة ومكانة القائد، دون الإخلال بقواعد الولاء والاحترام. بينما تحول ثقافة الاستلاب القيادة السياسية العليا إلى رمز قدسي فوق المحاسبة والمسائلة وتلغى الدور المهم للقيادة في الحياة الجماعية. ولأن ثقافة الاستلاب تتجاهل أهمية الفعل القيادي بوصفه وظيفة مجتمعية تتمثل بالريادة وحل المشكلات والتصدي للتحديات اليومية التي تواجه المجتمع، فإن الضعف والوهن وضياع الطاقات الاجتماعية هي أولى الثمرات المّرة التي تحصدها هذه الثقافة. الذل والعبودية ثمرتان أخريان من ثمرات هذه الثقافة التي تقسم المجتمع إلى سادة وعبيد، وهاتان الثمرتان ليستا محصورتين في العبيد بل تشملات السادة أيضا، لأن سيادتهم منقوصة وأخلاقهم أخلاق العببد. وصدق القائل: “ملوك العبيد ملوك عبيد.” فمجتمع الاستلاب مجتمع يتحكم فيه القوي في الضعيف لكنه مجتمع ضعيف، لأنه مجتمع عبيد يمكن لفرد أو بضعة أفراد التحكم فيه من خلال التحكم بسادته الذين يتصفون باخلاق العبيد. فالسادة في مجتمع الاستلاب عبيد نقلتهم الأقدار إلى موقع القيادة دون التحلي بصفات الحرية.

مجتمع الأحرار الذي يليق بكرامة الإنسان هو المجتمع الذي يتساوى فيه أفراده في الكرامة والاحترام، وهو المجتمع الذي يتضامن فيه الجميع للدفاع عن الحقوق وتكريس دولة القانون. مجتمع الأحرار هو الذي يقدّر ابطاله لا من خلال موقعهم الرسمي لكن من خلال مواقفهم وخدماتهم، يكرمهم سواء كانوا رؤساء أو جنودا. الاحتفال بتحرير الأسرى في بيروت خطوة غير مسبوقة في تاريخ العرب الحديث، لعلها تشكل بوادر نقلة حقيقية من ثقافة الاستلاب إلى ثقافة الحرية.
<<النص الكامل

الخميس، يوليو 10، 2008

الصراع لإخضاع السلطة للمسؤولية السياسية - ماليزيا وتركيا نموذجا

تعتبر السياسة من المظاهر الرئيسية للمؤسسة المجتمعية نتيجة لأنها تمثل الأنشطة التى تهدف إلى تنسيق مصالح وإهتمامات المواطنين. حيث أن السياسة تفترض مسبقاً وجود إتفاق حول مجموعة من القواعد من أجل تأمين تمثيل المواطنين فى إتخاذ القرار والسلطة والحكم، ومن أجل تسهيل الإنتقال السلمى للسلطة. وفى أغلب الدساتير العاملة، يتم استبدال المسؤولين المنتخبين حينما يخسروا الدعم الشعبى فى الإنتخابات العامة.

لقد احتضنت العديد من الدول الإسلامية النهج الديموقراطي، ولكن لم تنجح الغالبية من تلك الدول فى التغلب على السياسات القديمة المتمثلة فى دسائس القصر وهو الأمر الذى قد أدى إلى زعزعة أواصر الحكم فى الدول الإسلامية التاريخية القديمة. غالباً ما تُستخدم قوة الشرطة والقوات العسكرية، بالإضافة إلى المؤامرات السياسية، من قبل الخاصة من رجال السياسة فى الدول الإسلامية من أجل الوصول إلى والحفاظ على السلطة. وتعتبر ماليزيا وتركيا من الدول الإسلامية القليلة التي التزمت الخط الديموقراطي، ونجحت في إخضاع حكامهم للمسآلة الشعبية، حيث أن كلاهما تتمتع بنظام سياسى تعددي وتنعم بمجتمع مدنى متطور بشكل واضح.

وتوضح الأحداث الأخيرة التى جرت فى تلكما الدولتين صعوبة الإنتقال إلى الحكم الديموقراطى فى المجتمعات الإسلامية. فبعد معاناة طويلة من أجل المشاركة السياسية، دخل حزب العدالة والتنمية، ذي الجذور الإسلاميةاً والذى يمثل الطبقة الوسطى، فى صراع على السلطة مع النخبة السياسية ذات الميول القومية. وأبدت الأحزاب القومية عزمها على استخدام السلطة القضائية والجيش من أجل تدمير الحزب الحاكم ذي القاعدة الشعبية العربضة، والذي يتمتع بأغلبية نيابية مطلقة تتجاوز ثلثى المقاعد.

ويسعى المدعي العام التركي الذي يمثل الاتجاه القومي إلى إغلاق الحزب وحرمان رئيسه من الحق في ممارسة العمل السياسي منهما إياه بإضعاف النظام العلماهي وذلك بالسماح للنساء الملتزمات بإرتداء الحجاب فى الحرم الجامعي.

وبدلاً من الإعتراف بأن ارتداء الحجاب اختيار شخصى حق دينى يجب حمايته التزاما بمبدإ الحرية الدينية الديموقراطي، أتهم القوميون حزب العدالة والتنمية بتدمير التقاليد العلمانية التركية، وقاموا بالدعوة إلى فرض حظر على التعامل مع الحزب وقادته. ولقد تم إعتقال رئيس الحزب ورئيس الوزراء التركى الحالى فى التسعينيات من القرن الماضى بسبب إلقاء قصيدة دينية عندما كان عمدة إسطنبول.

ويبدو أن الوطنيين يعتقدوان أن بإمكانهم الاستخفاف بالشعب التركى باستخدام مفردات ديموقراطية لإخفاء مطامعهم السلطوية وسحب البساط من تحت أفدام خصومهم السياسيين، وإخفاء عجزهم والسيطرة على مؤسسات الدولة من خلال منافسة ديموقراطية حرة وعادلة.

يتكرر الصراع لتحقيق حرية مسؤولة فى ماليزيا. فقد قرر قادة الحزب الحاكم، والذى وصل إلى السلطة منذ أن حصلت ماليزيا على إستقلالها فى عام 1957، العمل لتكريس لسيطرتهم على الحكم وذلك بتوريط قائد المعارضة فى فضائح جنسية. فلقد تم إتهام أنور إبراهيم، الذى قاد المعارضة إلى تحقيق نصر سياسى مهم فى شهر آذار (مارس) السابق والذى سبق له أن تقلد منصب نائب رئيس وزراء البلاد، باللواط من قبل مساعد سياسى شاب.

ولقد أعترف نجيب رزاق، نائب رئيس الوزراء الماليزى الحالي والعدو القديم لأنور، بالإجتماع بصاحب الاتهام فى مقر إقامته قبل يومين من قيام الأخير بإتهمامه المدمر.

نائب رئيس الوزراء ذاته متورط بقضية قتل مترجمة مغولية، وقد وجه الادعاء تهمة الضلوع بالجريمة إلى مستشاره السياسى واثنين من مساعديه. إتهام أنور باللواط إعادة مطابقة لتهمة مماثلة وجهتها قيادات الحزب في عام 1998 من أجل حرمانه من منافسة رئيس الحزب آنذاك، مهاتير محمد، على رئاسة الحزب.

ويمثل كلّ من رجب أردوغان وأنور إبراهيم نوعا جديدا من القادات السياسيين فى الدول الإسلامية والذين تقودهم رؤية جديدة متآصلة فى الأخلاقيات الإسلامية ترى أن القيادة السياسية مسؤولة أما المواطنين. كما أنهما ملتزمان بمبدأي الحرية السياسية والتعددية السياسية والإجتماعية. ولقد ابدى كلاهما الرغبة فى تقديم تضحيات شخصية عظيمة من أجل دفع نظرتهم السياسية إلى الأمام.

ولن تكون الأفعال البطولية التى يقوم بها قادة شجعان مثل أنور ورجب، بعدما نالوا إعجابا كبيرا من قبل الجماهير وتأييد واسع، كافية من أنفسهم من أجل تحويل ماليزيا وتركيا إلى ديموقراطيات حقيقية. يتطلب مثل هذا التحول وعى ونشاطا سياسيا جديدا ينتزع السلطة السياسية من السيطرة الكلية للنخبة السياسة ويخضعها إلى الرقابة الجماهرية. ويتطلب هذا الأمر ظهور مؤسسات مدنية قوية ترفض الاستخفاف السياسى والتحكم، بالإضافة إلى المطالبة بأن يتولى المسؤولون المنتخبون المسؤولية عن آرائهم وأفعالهم.

والأمر الأكثر أهمية فى ذلك الشأن، إن التحول إلى حكم ديموقراطى حقيقى يستلزم وجود شعب ليس لديه الرغبة فى أن يتم العبث والاستخفاف به من قبل مسؤوليه المنتخبين. وتزودنا آيات التنزيل برؤية عميقة فى مصدر السلطة والقوة التى يستمتع بها والطغاة والمستبدون: ألا وهى قدرتهم على الاستخفاف بالناس من أجل إخضاعهم والحصول على دعمهم. وبشكل ساخر، فإن تلك القدرة تُستمد من رغبة الأشخاص الفاسدين فى أن يتم خداعهم عن طريق قبول الإدعاءات الخاطئة بدلاً من الحصول على التميز الشخصي.

ويقدم القرآن الكريم آيات تؤكد على ان فرعون كان حاكما ذا سلطة استبدادية وعدوانية. ويعزو القرآن ذلك إلى قدرته على توفير مناخ مناسب لعبثم بمقدرات المجتمع في مقابل خضوعهم لنزواته التي تستخفب بعقولهم وكرامتهم. وعلى الرغم من البون الشاسع بين استكبار فرعون والطبقة الحاكمة المتواجدة على رأس الديموقراطيات الإسمية، فغالباً ما تكون آليات الحراك السياسي متشابهة.

تحاول بعض القيادات المتشبثة في كرسي الحكم فى ماليزيا وتركيا الاحتفاظ بامتيازاتهم السياسية عن طريق الاستخفاف بمواطنى دولتهم عبر التلاعب والخداع، وبذلك تحويل السياسات الوطنية إلى ما يشنه السيرك. ولعل فشلهم في تحقيق ما يريدون يكون مؤشرا على انتهاء اعتبار السلطة أداة للمتنفذين وبداية لسياسة تقوم على أساس المسؤولية الاجتماعية. وسيجعل هذا الأمر أيضاً من هاتين الدولتين نموذجا للديمقراطيات الحقيقية وأملا للعديد من المجتمعات الإسلامية الأخرى.
<<النص الكامل

الأحد، يونيو 10، 2007

الاستقرار والتنمية وأمن الدولة في سوريا


الفاعلية السياسية للأنظمة النيابية التي أصبحت عنصرا أساسيا في الدولة الحديثة تتحدد في قدرتها على تمثيل القوى الاجتماعية والسياسية التي يتكون منها المجتمع السياسي، ومراقبة عمل السلطة التنفيذية للتأكد من قيامها بالمسؤوليات الملقاة على كاهلها. نعم تختلف المجالس النيابية في مهامها وآليات عملها، لكنها تتفق في أنها جميعا مسؤولة عن محاسبة السلطة التنفيذية وسن القوانين التي تحدد عملها.

الانتخابات النيابية السورية الأخيرة أظهرت أن دولة المؤسسات التي تطمح إليها الأجيال الشابة لاتزال غاية منشودة ولم تتحول بعد إلى واقع معيش. فقد كشفت النسبة المتدنية للمشاركة في الانتخابات التشريعية انعدام الثقة الشعبية في المؤسسة التشريعية. فنسبة المشاركة الفعلية وفقا لتقرير مركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية لم تتجاوز 7% من المواطنين الذين يملكون حق الانتخاب. ونقل التقرير معلوماته هذه عن مصادر من وزارة الإدارة المحلية، كما أشار إلى أن قوى المعارضة حددت نسبة المشاركة في 9%. وعلى الرغم من الصورة الباهتة التي رسمها التقرير لقدرة المواطن السوري على المشاركة في أبسط النشاطات السياسية، فإنة لم يخل من بوارق أمل. فقد أشاد التقرير بتوفر "شئ من الموضوعية" في تعليقات الصحف الرسمية على الانتخابات، التي عكست "غياب الحماس الشعبي" وافتقار المرشحين إلى برامج انتخابية، واكتفائهم بشعارات فضفاضة مبهمة. المصادر الرسمية أعلنت أن نسبة المشاركين في الانتخابات بلغت 56% من الحاصلين على بطاقات الانتخابات البالغة نسبتهم 62% ممن يملك حق الانتخابات. وبالتالي لم تتجاوز نسبة المشاركة الفعلية في العملية الانتخابية حسب المصادر الرسمية 35% من الناخبين السوريين.

عجز مجلس الشعب السوري عن اكتساب ثقة الناخبين والقيام بالمهام المنوطة به، والذي انعكس في الموقف الشعبي من العملية الانتخابية، تدعونا إلى التساؤل عن العلاقة بين الشكل والوظيفة، وبين البعدين الإجرائي والمضموني في المؤسسة النيابية. كما يدعونا إلى السؤال عن مدى ارتباط بنية المجلس بالممارسة السياسية، وأثر ذلك على قوة النظام السياسي ومنعته وتطوره. فقوة أي نظام سياسي تتأتى من قدرته على تعبئة الطاقات السكانية وتنمية القدرات الفنية والمالية وتوظيفها في عملية البناء والإصلاح. لذلك فإن النظام السياسي الناجع هو الذي يوفر الفرص ويقدم إلى مواقع القيادة والقرار أصحاب الكفاءة والإخلاص، الحريصين على بناء الدولة والمجتمع والاستفادة من كل الطاقات الوطنية دون تمييز على أساس دين أوطائفة أو محسوبية أو إقليم. وهذا لا يتم إلا من خلال توفر آليات المراقبة الشعبية والإعلامية للمؤسسات الرسمية والمحاسبة القضائية والدستورية لكل من تخول له نفسه ترجيح مصالحه وأغراضه فوق المصلحة العامة والقانون المعتمد. تمكين المواطن من تحدي التجاوزات ومحاربة الفساد شرط ضروري للحيلولة دون استشراء الفساد في أجهزة الدولة وسلب المجتمع من عناصر القوة والنمو. فخطر انتشار الفساد الإداري في أجهزة الدولة كخطر انتشار السوس في جزع الشجرة واغصانها، فكلاهما يستشريان في الجسم المصاب ببطئ بعيدا عن الأنظارخلال سنوات الهدوء والأمان، ولا يتكشف خطرهما إلا في زمن العواصف والاضطراب بعد فوات الأوان.

ضعف المشاركة السياسية في العملية السياسية لا تعنى بأي حال بأن النظام السياسي السوري يواجه معارضة شعبية واسعة. فالنظام السوري استطاع خلال العقود الأربعة الماضية من تحقيق استقرار سياسي داخلي وخارجي. فقد تمكن النظام السياسي في مطلع السبعينيات من القرن الماضي من انهاء الأضطراب السياسي المزمن منذ استقلال سوريا عن الوصاية الفرنسية ووضع نهاية لسلسلة الانقلابات العسكرية. كما استطاع النظام من اعتماد سياسية خارجية جنبت سوريا القلاقل التي واجهت العديد من دول المنطقة مع المحافظة على استقلالية القرار السياسي. فقد استطاعت القيادة السياسية السورية على سبيل المثال تجاوز الضغوط الأمريكية الأخيرة عبر الإنسحاب من لبنان والاستمرار في خيارها الاستراتيجي بالتحالف مع إيران. في حين أخفقت المعارضة السياسية—خاصة المتواجدة منها في الخارج—من تحقيق النتائج التي راهنت عليها من خلال البناء على الخطاب الأمريكي الرسمي الداعم للتحول الديمقراطي في المنطقة. وهذا يفسر تماهي الموقف الشعبي السوري والعربي مع الخيارات الاسترتيجية الخارجية للقيادة السورية المشددة على استقلال المنطقة عن الهيمنة الغربية، ووقوفه موقف المتردد من خطاب المعارضة في الداخل والمتوجس من ائتلافات المعارضة في الخارج.

الأخطار الخارجية من جهة، وغياب منابر سياسية مستقلة وفاعلة من جهة أخرى، جعل الهاجس المعيشي والمالي الهاجس الأول للمواطن السوري، كما جعل التنمية الاقتصادية والتجارية الأولوية العليا في العملية الإصلاحية التي قادها الرئيس بشار الأسد خلال ولايته الأولى. ولقد أدت خطوات الإصلاح الإداري والمالي إلى تعديلات محسوسة في البنية التعليمية بعد ظهور عدد من الجامعات الخاصة تسعى إلى رفع مستوى التعليم الجامعي بعد أن أضعفته سياسات الاستيعاب. كما أتاحت المقاربة الاقتصادية الجديد، القائمة على التحرير الموجه للاقتصاد المحلي ودخول المصارف الأهلية وخصصة التوزيع التجاري والمشاريع الصناعية، فرصا جديدة لمبادرات أهلية بعيدة عن هيمنة النظام الديواني (البيروقراطي) المتضخم والمتراخي. بيد أن الانفتاح الاقتصادي المرتبط بالهم التنموي لا يمكن أن يؤدي إلى تحقيق الانتعاش الاقتصادي و توفير الفرص للأجيال الشابة في غياب الرقابة الشعبية والإعلامية. بل يمكن لهذا الانفتاح أن يتحول إلى مصدر للاضطراب الاجتماعي والسياسي الداخلي إذا اقترن بالفساد الإداري، وسوء استخدام المؤسسات المالية، وإذا تحولت الجامعات الخاصة إلى مؤسسات تجارية بحتة تحركها الرغبة بالربح السريع، ومطية لابناء الطبقة الميسورة للوصول إلى مواقع السلطة والثروة.

يعتقد البعض أن الاستقرار السياسي الذي حققة النظام خلال العقود الماضية ناجم عن إحكام قبضة الأجهزة الأمنية على المجتمع المدني. وهذه في تقديري قراءة مجتزءة لأسباب الاستقرار. نعم، وضع النظام السوري الهاجس الأمني على رأس قائمة أولولياته خلال عهد الرئيس حافظ الأسد، واعتمد على الجهاز الأمني لتحقيق الاستقرار السياسي. لكن النظام استطاع في الوقت ذاته توسيع دائرة الطبقة الوسطى في البلاد وذلك بتقليل الفوارق المعيشية بين أبناء المدن والقرى، وتحسين الأوضاع الاجتماعية والتعليمية، وتوفير فرص التعليم العالي من خلال سياسات الاستيعاب الجامعي. الانفتاح الاقتصادي الحالي يمكن أن يؤدي إلى تفاوت كبير في متوسط الدخل بين النخب السياسية والتجارية من جهة والأغلبية الشعبية، وإلى اختفاء الطبقة المتوسطة وتحول الموطنين السوريين إلى أقلية منعمة وأغلبية محرومة. مثل هذا التحول قمين بإضعاف التماسك الداخلي للمجتمع السوري وإجهاض التنمية الاقتصادي وتهديد الأمن القومي.

يقودنا الطرح السابق إلى الحديث عن هاجس أمن الدولة السورية، وهو هاجس حقيقي في سياق الاضطرابات السياسية التي تحيق بسوريا من كل جانب، والتي ازدادت حدتها مع اهتزاز أمن إسرائيل ورغبة الدولة العبرية والقوى التي تدعمها في الغرب إلى حماية وجودها بزعزعة أمن الدول المحيطة بها. أمن الدولة السورية يرتبط مباشرة بقوة المواطن وشعوره بالمسؤولية تجاه حرية الوطن وسيادته والتزامه بقوته ومنعته. هذا الشعور بالمسؤولية مرتبط بمشاركة المواطن الحقيقية في الحياة السياسية، واستشعاره أنه شريك في الوطن يتمتع بالحقوق ويتحمل الواجبات. لقد أستطاعت القوى المتربصة بدول المنطقة من زعزعة أركان الدولة العراقية لانعدام التضامن الداخلي، بعد أن حول صدام حسين جزءا كبيرا من الشعب العراقي إلى مجموعة سكانية مضطهدة وجدت في التدخل الخارجي مخرجا من حالة القهر، لتكتوي اليوم في نار الاقتتال الطائفي والحرب الأهلية. كذلك يجد المتربصون في الانقسامات السياسية والصراع الداخلي في لبنان مدخلا لإضعاف لبنان وتأجيج الخلاف بين القوى السياسية. ولولا وعي القوى الأساسية بخطر الاقتتال وشعورها بالمسؤولية لاشتعلت نار الفتنة الطائفية منذ أشهر. إن أمن الدولة لا يتحقق على المدى الطويل إلى من خلال التضامن الداخلي وشعور المواطن بالمسؤولية الأخلاقية الوطنية لحماية الأمن العام من دعاة العنف الداخلي وعدوان أصحاب المطامع في الخارج.

الولاء الحقيقي للقيادة والوطن لا يتحقق بكيل المديح وإخفاء العيوب، بل يتجلى من خلال النصيحة الصادقة والنقد البناء وتحديد الأخطاء وتقديم البدائل والحلول. وأمن الدولة الحقيقي يتطلب مواجهة الفساد، وسوء الإدارة، وتضييع الموارد البشرية والمالية للبلاد. وهو لذلك يتطلب مجلسا نيابيا قادرا على مراقبة المؤسسات التنفيذية والحيلولة دون استشراء الفساد فيها، وقادرا كذلك على سماع أصوات النقادة واستيعاب قوى وطنية معارضة تسعى إلى الإصلاح والتنمية من داخل مؤسسات الدولة والمجتمع. كما يتطلب وجود قضاء نزيه ومستقل يلقى احترام الجميع، ويملك القدر على إعادة الحقوق وردع المسيئين للمصلحة العامة. ومسؤولية تطوير المؤسسة التشريعية ليست فقط مسؤولية النواب، بل هي مسؤولية الجميع بدءا من القيادات السياسية الرسمية والحزبية.

وهذا ما يدعوني إلى التأكيد على أن الاستقرار والتنمية وأمن الدولة ليست هواجس متصارعة، بل هموم متداخلة يرتبط كل منها بالآخر. فلا تنمية اقتصادية بدون استقرار، ولا استقرار بدون أمن، ولا أمن بدون تنمية وعي سياسي يقود إلى المشاركة الحقيقية في الحياة السياسية وفي بناء الدولة والمجتمع.

لؤي صافي

نشرت المقالة في الصحف والدوريات الآتية:

القدس العربي
ميدل إيست أونلاين
نوبلز نيوز
تقرير كلنا شركاء في الوطن
<<النص الكامل

الجمعة، أغسطس 25، 2006

أرض الصمود وأرضية البناء - من التجربة اللبنانية إلى الدعوة السورية


أظهر صمود المقاومة الباسل واستعدادها لساعة المواجهة، عمق الأزمة العربية، والقدرات البشرية والمادية الضائعة والمبددة على امتداد الوطن العربي. فقد كشفت إرادة الصمود أن الضعف العربي نابع من غياب الإرادة السياسية للتعامل الجدي مع التحديات، وغلبة الهم الذاتي والشخصي على الهم الوطني والقومي. كما أظهرت استخفاف إسرائيل، ومن ورائها الحركة الصهيونية العالمية، بالدول العربية، وقدرتها على تعبئة الخطاب السياسي وتوظيف المؤسسات الدولية لصالحها.

لاشك أن القيادات السياسية اللبنانية تمكنت عبر تماسكها الداخلي وصمود مقاومتها من فرض شروطها، وإدخال تعديلات جذرية على نص قرار 1701 الأممي. لكن إسرائيل تمكنت في نهاية المطاف من استثمار تباين المواقف بين الأطراف اللبنانية، والصمت العربي، للتقليل من الصدمة الكبيرة التي أحدثها صمود الشعب اللبناني وتكاتفه في وجه العدوان. وخرج القرار الأممي ليضع مسؤولية حفظ السلام بين لبنان والدولة العبرية على عاتق القيادة السياسية اللبنانية والمجتمع الدولي، وخرجت إسرائيل من المعركة وقد حولت فشلها العسكري إلى قتل ودمار بين المدنيين لتحمل لبنان ومقاومته مسؤولية الجرائم التي اقترفتها.

وهكذا بدلا من أن تنتهي الحرب المدمرة التي شنتها إسرائيل على الشعب اللبناني وبناه التحتية بإدانة العدوان الشرس، والدعوة إلى محاكمة قادته السياسيين والعسكريين لارتكابهم جرائم حرب في لبنان، وإرغام الدولة الصهيونية على دفع التعويضات المالية لتغطية الدمار الشامل الذي خلفته آلة الحرب الإسرائيلية على امتاد الأرض اللبنانية، يأتي القرار الأممي ليحمل المقاومة اللبنانية المسؤولية، ويلزم لبنان بقبول قوات دولية على أراضيه لحماية أمن الدولة المعتدية، وليحول عامل القوة اللبناني المتمثل بسلاح الردع الذي تملكه المقاومة إلى عامل صراع داخلي بين القوى السياسية في لبنان حول مسألة نزع سلاح المقاومة.

لقد أظهرت التجربة اللبنانية بوضوح أن استخفاف إسرائيل بالعرب، وثقتها المفرطة في أمكانية تحويل أي انتصار عربي إلى هزيمة، نابع من انعدام الثقة بين القوى السياسية العربية، وغياب التضامن الداخلي بين أبناء الوطن الواحد والشعب الواحد والأمة الواحدة. غياب الثقة بين الدول العربية ودول الجوار الإسلامي، كإيران وتركيا، حال دون تطوير رؤية سياسية موحدة أمام التحدي الصهيوني، أو بناء منظومة تعاون اقتصادي وأمني يرغم القوى الغربية المتحيزة للرؤية الصهيونية على احترام الموقف العربي. وغياب الثقة بين الحكومات العربية يحول دون تطوير موقف عربي موحد يقطع على أسرائيل امكانية الاستفراد بالدول العربية كل على حدى، واستخدام المصلحة الآنية لأحدها للنيل من المصالح المديدة للأخرى. وغياب الثقة بين الشعوب العربية وقياداتها السياسية الرسمية يحول دون قيام تضامن وطني يسمح ببناء القوة الداخلية في مواجهة القوى الخارجية الطامعة.

وكما شكل التضامن الوطني اللبناني الأرض الصلبة التي استندت إليها المقاومة لدحر العدوان، تهدد الانقسامات الداخلية اليوم بين القوى السياسية اللبنانية، وحسابات التوازنات السياسية بين طوائف الشعب اللبناني، بتعطيل عامل الردع الكفيل بوضع حد لاستخفاف إسرائيل بالسيادة اللبنانية. كذلك تهدد المهاترات السياسية والمعارك الكلامية بين الزعماء العرب بإنهاء حالة التضامن العربي التي ولدها واقع المقاومة وأصداؤها الشعبية.

وينتهى بنا المطاف في أي تحليل صادق للحالة العربية إلى البعد الحاضر الغائب في معركة البناء والحرية والكرامة: إلى الإنسان العربي الذي حولته سنيين طويلة من التسلط والاستبداد إلى مراقب لأحداث تعصف بكرامته ووجوده، وشاهد صامت على الزمن العربي الضائع. لقد وضع الرئيس السوري بشار الأسد في خطابه السياسي الذي ألقاه أمام مؤتمر الصحفيين العرب في دمشق الإصبع على الجراح عندما دعى القادة العرب إلى الانحياز إلى شعوبهم ودعم المصالح الوطنية. وانحياز القادة العرب إلى شعوبهم يعني، أولا وقبل أي شئ آخر، احترام القادة للقدرات الشعبية وتحريرها من التسلط السياسي والأمني، وتمكينها من المشاركة في البناء والمواجهة. كذلك يعني هذا التحيز تنمية الإمكانيات الاقتصادية والانتاجية المهدورة وإخراجها من أقبية الفساد الإداري إلى ساحات المسائلة الشعبية والصحفية، وحكم القضاء العادل.

سوريا التي وقفت في وجه الاستلاب السياسي ودعمت المقاومين للتوسع والعدوان والمنافحين عن الحرية والاستقلال في فلسطين ولبنان، تملك اليوم الخيار في أن تقدم نموذجا في التحول الديمقراطي الذاتي وبناء دولة القانون والحريات بعيدا عن الإملاءات الخارجية. هذا الخيار سيقدم مثالا رفيعا على انحياز القيادة إلى الشعب، وبناء المناعات الداخلية في مواجهة التهديدات الخارجية، وسيدفع العدو المستخف الطامع إلى إعادة حسابته في التعامل مع الدولة السورية. فالقيادة السورية مدعوة اليوم لتحويل دعوتها إلى واقع عملي عبر دفع جهود الإصلاح السياسي وتطوير تقاليد المشاركة السياسية الجماهيرية، وتحرير مؤسسات المجتمع المدني من المركزية المكبلة، وتشجيع الصحافة الحرة والمساءلة النيابية لمواجهة الفساد الإداري والتجاوزات الدستورية والقانونية.

انتهت المعارك في لبنان وبدأت عملية البناء والإعمار. وكما ندعو الحكومات والشعوب العربية إلى المساهمة في إعادة إعمار لبنان، فإننا ندعوهم إلى المباردة إلى بناء الجبهة الداخلية، والبنى الديمقراطية والمؤسسات الإعلامية والقانونية. وقبل هذا وذاك بناء الثقة بين القوى الاجتماعية والسياسية والدينية من جهة، وبينها وبين مؤسسات الدولة وهيئاتها.

لقد أظهرت التجربة في لبنان أن إلتفاف الشعب حول قيادته، وثقته الكاملة بها، وتحمله لمسؤولية الدفاع عن الكرامة والأرض، هي الأرضية الصلبة التي تستند إلى كرامة المواطن وعزة الوطن. وأن اعتماد القيادة على القدرات الذاتية للشعوب هو الطريق الأفضل لحماية انجازاتها والحفاظ على وجودها ومستقبلها. فهل يتحول هذا الدرس إلى واقع عملي ملموس، يحرر الشعوب العربية من قيود الخوف والعجز والاستلاب؟

لقد استمدت المقاومة صمودها، أولا وأخيرا، من ألتفاف قرى ومدن الجنوب اللبناني حولها، وتفاني أبنائه في الدفاع عن حياض الوطن وكرامته. ومن منا لم تتحرك مشاعره الدفينة وهو يستمع إلى نساء الجنوب يتحدثن الواحدة تلو الأخرى عن استعدادهن لدفع ثمن الكرامة والحرية مهما غلت التضحيات؟ بل من منا لم يتململ في مقعده وهو يستمع إلى الثقة الكبيرة التي يكنها شعب الجنوب لقيادته ويتساءل: متى تعم هذه الثقة شعوب المنطقة برمتها ليتحول التخاذل إلى ثقة والهزيمة إلى نصر والاستخفاف إلى احترام والهوان إلى عزة؟

لؤي صافي


نشرت المقالة في الصحف والمواقع الإخبارية التالية

ميدل إيست أونلاين
العرب أونلاين
أخبار الشرق
مقاربات
<<النص الكامل

الأحد، يوليو 09، 2006

إخوان سوريا والمراجعة التي لم تكتمل


يعود الإخوان المسلمون السوريون إلى الساحة السياسية في مغامرة جديدة لتقويض أركان النظام السياسي السوري. ويؤكد الإخوان نبذهم لوسائل العنف، وتبنيهم قواعد العمل السياسي الديمقراطي، وفق برنامج سياسي يحمل عنوان "المشروع الحضاري لسوريا المستقبل" تم إعلانه قبل عامين.

التوجه الديمقراطي الجديد لم تصاحبه أي مراجعة جدّية لتجربة الإخوان السياسية السابقة التي انتهت قبل ربع قرن بصدام مسلح أحرق البلاد وأهلك العباد، راح ضحيته الآلاف من القتلى والمسجونين والمبعدين. برنامج الإخوان السياسي الجديد يتحدث عن مراجعة ويعترف بالمجزرة التي راح ضحيتها طلاب مدرسة ضباط المدفعية في حلب عام 1979، لكنه يلقي بمسؤولية الأحداث الدامية على "ثلة من الشباب محدودة العدد" أسماهم بالطليعة المقاتلة، نافيا أن تكون لهم أية صلة بجماعة الإخوان.

مجزرة مدرسة المدفعية كانت جزءا من مسلسل العنف الذي ارتكبته آنذاك جماعات من الإسلاميين، عرفت باسم الطليعة المقاتلة، شمل اغتيال العشرات من المثقفين وأساتذة الجامعات والناشطين السياسيين، واستهدف مراكز للشرطة والأمن، وانتهى بصدامات دموية مع قوى الأمن في حماة، راح ضحيتها أعداد كبيرة قدرتها منظمة العفو الدولية بالآلاف.

وسواء أقرت قيادة الإخوان أو نفت وجود علاقة رسمية بينها وبين الطليعة المقاتلة، فإن صدق المراجعة يتطلب الإقرار بأن "ثلة الشباب" التي قادت أعمال العنف، خرجت من رحم جماعة الإخوان وتفاعلت مع أطروحات قادتها، وفي مقدمتهم سعيد الحوى، التي شكلت كتاباته الأرضية الفكرية والأخلاقية التي مهدت للصدام المسلح، وبررت استخدام العنف ضد النظام السياسي القائم.

استخدام العنف في التغيير السياسي كان أحد الأطروحات المركزية في كتابات سعيد الحوى، المنظر الرئيسي للإخوان خلال الستينيات والسبعينيات. ففي كتابه "جند الله ثقافة وأخلاقا" يقرر الحوى أن "المسلمون في العالم الإسلامي في حالة ردة" وأن "أجهزة الحكم كلها تقريبا آلت إلى أيدي مرتدين أو منافقين أو كافريين أصليين." ويؤكد أن المخرج من حالة الردة يكمن في تشكيل حزب يعمل "لإنهاء الردة والمرتدين." ويصر الحوى على أن العلاقة الوحيدة التي يمكن أن تقوم بين الحزب الذي يمثل الإسلام والمرتدين الصدام والعنف: "إن الأصل في علاقتنا مع هؤلاء جميعا الحرب الشاملة".

وفي كتابه "المدخل لجماعة الإخوان المسلمين" يحذر الحوى من مغبة قبول التصورات التي لا تتبناها الجماعة، والتي يعتبرها من "مظاهر رواسب الجاهلية" ومن "معوقات النضج الإسلامي" فيقول: "ومن رواسب الجاهلية ... استعمالنا لتعبيرات غيرنا، وقبولنا لتصوراته سواء في تقسيم الناس والنظر إليهم، أو باستعمالنا تعبيراتهم في المدح والذم: ثوري، انتهازي، لا عنف، نقد ذ اتي، برجوازي، رأسمالي، اشتراكي، بروليتاري."

ولا يعنينا في هذه العجالة مناقشة المفاهيم التي يسوقها الكاتب، بل الإشارة إلى القطعية في التعامل مع التعددية الفكرية والسياسية، والإصرار على عزل أتباع الجماعة عن محيطهم الفكري والسياسي من خلال التنديد بمفاهيم أساسية لقراءة الواقع المحيط والتعامل معه، والدخول في تقويم ونقد للذات، والدعوة إلى "حرب شاملة" بين الجماعة والنظام السياسي. وبالتالي فلا غرابة في أن يقود تنظير كهذا "ثلة من الشباب" إلى الصدام المسلح مع النظام السياسي، وأن يصبح الحوار والمشاركة السياسية خيارا مرفوضا.

إن المراجعة التي يشير إليها برنامج الإخوان السياسي الجديد باقتضاب مراجعة ناقصة، لم تكتمل عراها بعد. فلا يكفي أن يقوم فصيل سياسي يريد أن يشارك في التحول الديمقراطي، بل يسعى إلى أن يقود هذا التحول، بمراجعة مفردات خطابه السياسي، بل يلزمه مراجعة كتاباته التنظيرية، ومنطلقاته النظرية، ومناهج إعداد قواعده الشعبية والتنظيمية.

وتتأكد أهمية هذه المراجعة لأن الأخوان لا يرون في أنفسهم تنظيما سياسيا كسائر التنظيمات، بل جماعة إسلامية تشكل النواة التنظيمية للمجتمع الإسلامي برمته. وهذا ما يدفع الإخوان إلى ربط الإعداد الثقافي بالإعداد السياسي والتنظيمي، ويعزل، من جهة أخرى، تطور أطروحات الإخوان السياسية عن تطور الإطروحات في دائرة الفكر السياسي العام.

ومن هنا فإن ربط الإخوان بين المؤسسة الاجتماعية المهتمة بقضايا الثقافة والتعليم والتوجيه، وبين المؤسسة السياسية المهتمة بقضايا السلطة والمصالح العامة، يتعارض مع العمل في إطار تعددية ديمقرطية سياسية. ولأن في مقدمة مطالب المعارضة إلغاء هيمنة حزب البعث على المؤسسات الاجتماعية، كالنقابات والاتحادات، فإن على الإخوان الذين يدعون التزامهم بالديمقراطية التعددية المبادرة إلى طرح أنفسهم على أنهم حزب سياسي يتحدث باسم أعضاءه ومناصريه، والتخلي علانية عن مفهوم الجماعة التي تسعى إلى التنامي لاحتواء المجتمع برمته.

تخبط الإخوان مؤخرا بين الانضمام إلى إعلان دمشق والالتزام بالعملية الديمقراطية والوفاق الوطني من جهة، والانخراط في تحالفات تهدف إلى اسقاط النظام من جهة أخرى، يؤكد أن المراجعة المطلوبة لم تتحقق حتى الآن، وأن المراجعة التي يشير إليها الإخوان لم تتجاوز مستوى الخطاب السياسي العام.

التطورات السياسية الأخيرة تدعونا للتسائل عن مدى تفاعل القيادة الإخوانية مع روح العمل الديمقراطي ومتطلباته. لقد فاجأ الإخوان الجميع، بدءا بزعماء إعلان دمشق، بدخولهم في حلف رسمي مع عبد الحليم خدام عقب إعلان الأخير رغبته باسقاط النظام، ولمّا تمض أشهر قليلة على انضمامهم لإعلان دمشق، وتصريحم بالدعم الكامل له، في بيان رسمي صدر في خريف 2005 . وخرج مراقب الإخوان ليشتكي على الملأ عبر قناة الجزيرة من طول الانتظار ونفاذ الصبر. وليدعو متحدثهم الرسمي في حوار مع قناة الحرة الفضائية إلى انتفاضة شعبية، مذكرا بقدرة الشعب على التحرك كما فعل في سبعينيات القرن الماضي!

تغيير النهج السياسي للإخوان يتطلب أكثر من تغيير للخطاب السياسي. فهو يتطلب أولا تغييرا جذريا في كثير من المفاهيم الاجتماعية والثقافية والسياسية، ويتطلب ثانيا إعادة ترتيب العلاقة بين البنية السياسية والاجتماعية للجماعة، لتحرير المؤسسات الاجتماعية والثقافية من هيمنة المؤسسة السياسية، وهو بحاجة أخيرا إلى التزام قيادة الإخوان بمبادئ العمل الديمقراطي، وانضباطهم بمتطلبات السلم الأهلي.

لؤي صافي

<<النص الكامل

الجمعة، يوليو 07، 2006

المسألة الفلسطينية وترابط الحقوق العربية - بين تحرير الوطن وتحرير المواطن


تتساءل الشعوب العربية وهي ترقب عبر الفضائيات تطورات الصراع الدائر اليوم بين الجيوش الإسرائيلية الجرارة وإرادة الشعب الفسلطيني الحرة الأبية في رفح وخان يونس وبيت لاهيا، في معركة غير متكافئة، عن السبيل لحل المسألة الفلسطينية، وتطالب حكوماتها بصوت خجول بالتدخل لنصرة الفلسطينين، بينما تقف الحكومات العربية مكتوفة الأيدي في خضم حالة اختلان موازين القوى، لتكتفي ببيانات استنكار تطلقها على استحياء، أو دعوات للدول الغربية للتدخل دفاعا عن الدم الفلسطيني المسفوح.

المسألة الفلسطينية، التي تشكل اليوم العقدة الرئيسية في حياة العرب والمسلمين، نجمت عن التطور التاريخي للمسألة اليهودية التي شكلت عقدة رئيسية في حياة الشعوب الأوربية خلال القرنين الثامن والتاسع عشر. المسألة اليهودية ارتبطت ببروز الحركة القومية في أوربا، والتناقضات التي نجمت بين الهوية القومية المرتبطة بحدود الدولة القومية والجماعات اليهودية المنتشرة في أصقاع أوربا، وما تبع ذلك من حملات العداء للسامية. والمسألة الفلسطينية تولدت من نجاح يهود أوربا في حل مشكلتهم القومية، وإقامة دولتهم المستقلة على حساب الشعوب العربية عموما، والشعب الفلسطيني خصوصا.

حل المسألة اليهودية جاء على نمط التشكيلات السياسية الأوربية التي سادت في القرن التاسع عشر، أي بتوحيد الشتات اليهودي من خلال دولة قومية عبرية. ولعبت الدول الأوربية عموما، وبريطانيا على وجه الخصوص، دورا أساسيا في إنضاج الشروط العملية لتأسيس الدولة العبرية، التي طورت بناها التحتية على أرض فلسطين خلال فترة الوصاية البريطانية التي انتهت بقيام دولة إسرائيل.

أوربا التي أسست منظومة الدولة القومية قررت، عقب حربين عالميتين نجمتا عن سباق الهيمنة بين دول أوربا القومية والتي راح ضحيتها زهاء 80 مليون إنسان، استبدال منظومة الدول القومية المتنافسة بمنظومة التكامل الاقتصادي والسياسي الأوربي، الذي تمخض عنها الاتحاد الأوربي. بينما استمرت المنظومة القومية تشكل قاعدة الصدامات العسكرية في الشرق الأوسط، عبر سلسلة من حروب التوسع القومي، بدءا بحروب الدولة العبرية التوسعية، ومرورا بالصراع الكردي العربي في العراق منذ ثلاثينات القرن الماضي، وانتهاء بمسلسل حروب الخليج.

خروج أوربا من مرحلة الصراع الدموي بين الدول القومية جرى من خلال تطوير منظومة حقوقية يحتكم إليها الأفراد والمؤسسات، ويتساوى أمامها المواطنون الأوربيون، دون النظر إلى خلفياتهم الدينية والقومية والعرقية، وتخضع لها كل المؤسسات الحكومية والأهلية. هذا التطور الذي يمثل انتصار الحق على القوة، والعين على المخرز، هو انتصار لكل الأوربيين، ومثال ناصع لقدرة الشعوب على تجاوز النزعات المحلية والقطرية التي ترفع التضامن المحلي والفئوي والقومي فوق متطلبات السلام العادل، وصولا إلى منظومة تسمح بتنسيق المصالح القومية وفق ضوابط القانون الذي يحفظ كرامة الإنسان وحقوقه، والذي يعلو ولا يعلى عليه.

حل المسألة الفلسطينية يتطلب تطوير أنماط من الوحدة الوطنية والتعاون السياسي يتناقض تماما مع الحل الذي اختارته أوربا للتعامل مع المسألة اليهودية والتي انتهى بالنكبة العربية وقيام الدولة العبرية. وبالتحديد يتطلب هذا الحل التخلي عن الرؤية العنصرية للدولة الصهيونية، والتي تسمح للمهاجر اليهودي بتملك الأرض في حين تحرمها لمالكيها العرب. كما يتطلب كذلك تطوير منظومة قانونية تسمح بقيام تعاون حقيقي بين المجتمعات العربية أفرادا ومؤسسات، بعيدا عن النزعات القومية، سواء أكانت عربية أو فارسية أو تركية أو كردية.

الدول العربية غير قادرة اليوم على إرغام إسرائيل على احترام الحق الفلسطيني، ناهيك عن اقناع يهود الأراضي المحتلة بالتخلي عن مشروعهم الصهيوني. ولطالما تذرعت إسرائيل كلما إثيرت قضايا الاضطهاد والاستبداد بأنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وتغنت بامتلاك عرب إسرائيل من حرية التعبير والتنظيم والمشاركة السياسية ما لا يمتلكه معظم العرب خارج إسرائيل. لذلك فإن مشاهد المأساة الفلسطينية مستمرة على شاشات الفضائيات العربية، كما يستمر تراجع قدرة العرب على نصرة إخوانهم في فلسطين يوما بعد يوم، في حين يتحول الواقع العربي تدريجيا إلى واقع شبيه بالواقع الفلسطيني، كما هو الحال اليوم في العراق.

حل المسألة الفلسطينية وتخليص الشعب الفلسطيني من كابوس الإحتلال الذي يربص على صدر هذا الشعب الأبي مرتبط مباشرة بقدرة الشعوب العربية على بناء مؤسساتها وتحرير إرادتها وإقامة دولة القانون على أرضها، كخطوة أولى لتوسيع دائرة التعاون الاقتصادي والسياسي والأمني بين الشعوب العربية. وهذا يتطلب التخلص من أوهام إرجاء مسائل الإصلاح الداخلي إلى حين حل المسألة الفلسطينية وتحرير الأرض المغتصبة. فتحرير الأرض المغتصبة غير منفك عن تحرير إرادة الإنسان العربي، وجعله إنسانا فاعلا في عملية البناء والتحرير.

المطلوب من النخب السياسية والثقافية في العالم العربي استشعار مسؤولياتها الأخلاقية والوطنية، والعمل على تطوير الحياة الاجتماعية والسياسية بما يسمح بإيجاد الإنسان العربي الحر الذي يحكمة القانون لا الرجال، وإيجاد نظام سياسي عربي يرفع الحقوق والقوانين فوق النزعات المحلية والإقليمية والقومية. هذا لا يعني بالطبع أن يتوقف العرب عن نصرة أخوانهم في فلسطين، ولكن يعني أن انتصار الحق العربي في فلسطين مربتط بحقوق المواطنة الغائبة عن معظم الأرض العربية.

لؤي صافي

الحياة
مقاربات
المثقف


<<النص الكامل

الأربعاء، يوليو 05، 2006

مفارقات الديني والعلماني في الحراك السياسي السوري


أدت الجهود الحثيثة التي وظفتها النخب العلمانية الحاكمة في سوريا في الثمانييات في سعيها لمحاصرة المد الإسلامي في البلاد— إثر القضاء على جماعة الإخوان المسلمين وإبعاد قياداتها السياسية إلى الخارج— إلى إذكاء الحياة الإسلامية بدلا من حدها. وانتهت محاولات نزع الحجاب في الشوارع، ومنع الطالبات من إرتداء الزي الإسلامي في المدارس، إلى انتشار الحجاب وشيوع اللباس الإسلامي بين النساء السوريات، وتكريس الهوية التاريخية للمجتمع السوري.

وقرر النظام السوري إثر تشتت جهود العلمنة تغيير نهجه واستيعاب المد الإسلامي الذي عم المنطقة من خلال السماح بنشاطات الجماعات الدينية التقليدية المتناقضة مع توجهات الإسلام السياسي. ووجدت النخب العلمانية الحاكمة في الجماعات التقليدية ذات النظرة الدينية التاريخية حليفا في مواجهة الإسلام السياسي، المتمثل بالإخوان المسلمين، الذي لم يتوان عن توظيف الرؤية الدينية الضيقة لتبرير الحرب المعلنة ضد حزب البعث والنظام الحاكم.

حزب البعث العروبي، الذي فشل في إحداث تقارب سياسي واقتصادي مع الأنظمة العربية والعروبية، بما في ذلك النظام البعثي في العراق، وجد عمقه الاستراتيجي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، كما وجد في إسلاميي لبنان والإردن وفلسطين حلفاء أساسيين في وجه التهديد الإسرائيلي ومشاريع السلام الثنائية مع الدولة العبرية.

بيد أن القيادات العلمانية السورية التي استفادات من القدرات النفسية والروحية للتيار الإسلامي في مواجهة الضغوط الصهيونية، لا تبدو راغبة في توظيف هذه القدرات في عملية البناء الداخلي. فالتيار الإسلامي التقليدي المتحالف مع النظام حريص على البقاء بعيدا عن الحياة السياسية، وغير راغب في التعرض بالنقد للحياة العامة. ومع أن محاربة الفساد والدفاع عن الحقوق والحريات واجب إسلامي ديني، فإن التيار التقليدي يصر على إبقاء الأخلاقي في دائرة الحياة الشخصية والروحية، والعام في دائرة الحياة السياسية الخارجة عن دائرة تخصصه.

لذلك فإن الناشطين في الدفاع عن حقوق الإنسان في سوريا لا ينتمون في الغالب إلى الحركات الدينية، سواء منها التقليدي أو السياسي، بل إلى عدد من الحركات السياسية ذات التوجه العلماني، والتي رفضت الاحتكام إلى السلاح في خلافها مع السلطة الحاكمة، وأصرت على المعارضة السلمية على الرغم من تعرضها إلى حملات اعتقال وملاحقة أمنية شبيهة بتلك التي دفعت الإخوان إلى تبرير العنف المسلح في مواجهة القمع السياسي.

الإخوان المسلمون الذي غابوا عن الساحة السياسية بعد إشعال نار الحرب الأهلية التي أحرقتهم وأحرقت الكثير من المتعاطفين معهم، عادوا من جديد ليركبوا موجهة المد الديمقراطي والحقوقي الذي يجتاح المنطقة، وليعلنوا انضمامهم إلى إعلان دمشق وتبنيهم للعمل السياسي السلمي أولا، وليعلنوا بعد ذلك بقليل عن نفاذ صبرهم ورغبتهم العارمة في إسقاط النظام عبر تحالف مع عدو لدود حوله عداؤه للنظام السوري إلى حليف ودود.

من جهتها، سارعت أطراف إعلان دمشق إلى احتضان جماعة الإخوان ذات الخطاب الديمقراطي رغم الأخطار المترتبة على ذلك، ربما لشعورها بأن الإخوان المسلمين يمثلون البعد السياسي للتيار الإسلامي في سوريا، أو ربما تحرجا من استبعاد الفصيل السياسي الوحيد الذي يرتبط اسمه صراحة بالإسلام، "المكون الثقافي الأبرز لحياة الأمة والشعب،" وفقا للبند الثالث من الإعلان. ولم تطالب قيادات الإعلان الإخوان بتقديم تحليل تفصيلي للحقبة المنصرمة من حياتهم السياسية وعلاقتها بمستقبل العمل السياسي. ولم تستشعر قيادة جماعة الإخوان الحاجة إلى مراجعة التجربة الدموية التي خاضتها عبر مصارحة يتم من خلالها وضع النقاط على الحروف وتحديد الأخطاء، أو إعادة النظر في الأسس التنظيمية والمقولات السياسية والمناهج التربوية التي قادت الجماعة إلى الصدام مع السلطة.

الإسلام في سوريا لا يشكل اليوم، ولنكن صرحاء، طاقة أخلاقية وروحية إيجابية في اتجاه تطوير الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، كما هو حاله في تركيا وإيران وماليزيا، بل يشكل طاقة سلبية محافظة، موجهة نحو حماية التراث الديني والثقافي والحفاظ عليه دون مراجعة أو نظر أو تغيير. الطاقة الروحية الإسلامية طاقة مبددة ومتناهية مع الماضي الإسلامي، لا ترى في الإمكان أفضل مما كان، وبالتالي فهي لا تشغل نفسها بتقويم الماضي ونقد الحاضر إستعدادا لبناء المستقبل.

لذلك لن يكون الإسلام التقليدي في سوريا قادرا إلا على إعادة إنتاج المجتمع الإسلامي التاريخي كما هو، دون تغيير يذكر في مستوى العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقانونية. بل إننا نرجح أن يقوم بإعادة توليد البنى الطائفية والعشائرية والمحلية التي سبقت جهود الإصلاح الإسلامي والعلماني المعاصرة. والإسلام السياسي الذي تمثله جماعة الإخوان المسلمين لا زال يعيد توليد البنى التنظيمية والمحتوى الفكري الذي رافق مراحل تشكيله الأولى في مطلع القرن الماضي. ولا زال الإخوان يسمون أنفسهم جماعة لا حزبا، ويصرون، رغم اعتناقهم المبدأ الديمقراطي، على تمثيل الاتجاه الإسلامي برمته وتوظيف بنيته الاجتماعية في خدمة بنيتهم السياسية، خلافا لكل التقاليد والأعراف السياسية التي تتفق على أن البنية السياسية تهدف دائما إلى خدمة البنية الاجتماعية.

سوريا بحاجة ماسّة اليوم إلى تجاوز ثنائية الديني والعلماني من خلال ربط الالتزام الأخلاقي والروحي للأول بالانفتاح السياسي والتنظيمي للآخر. الترابط بين البعدين ليس جديدا على الوعي التاريخي والسياسي في المنطقة، بل نراه ماثلا بجلاء في صحيفة المدينة التي أسست لميثاق سياسي جمع بين قبائل المدينة ذات التزامات دينية متعددة على أساس مبادئ إنسانية مشتركة من إقامة للعدل ودفع للعدوان وحفظ للحقوق. والترابط بين البعدين الديني والعلماني هو الذي أسس لشراكة إنسانية بين المسلم والمسيحي واليهودي في بناء حضارة عالمية حفظت الحقوق ورعت الذمم واطلقت الطاقات الخلاقة وحفظت لكل ذي فضل فضله. والترابط بين الديني والعلماني هو الذي يدفع إلى تعاون الجاليات العربية والإسلامية في الغرب للدفاع عن الحقوق والتصدي لحملات التضليل.

سوريا اليوم بحاجة كذلك إلى تجاوز ثنائية الإسلام التقليدي والسياسي وصولا إلى رؤية حضارية للإلتزام الديني وتوظيف الطاقة الأخلاقية والروحية في إقامة العدل وتعاون أبناء المجتمع على اختلاف مللهم ونحلهم، لتطوير العلوم والفنون، وتنمية قدرات المجتع والدولة. وهذا يتطلب تشجيع الحوار النقدي البناء، وتحرير الحياة العامة من الأحادية الحزبية والتنظيمية والسماح لأبناء المجتمع بالمشاركة في بناء الوطن وتوظيف الطاقة الأخلاقية والروحية في الخدمات العامة، وبالتالي تنمية الاحترام المتبادل بين فئات المجتمع.

لقد استطاعت سوريا أن تكون معقلا أساسيا للدفاع عن الاستقلال والممانعة في وجه التوسع الصهيوني والأطماع الخارجية بفضل تحالفها مع القوى الإسلامية في المنطقة، وهي ستحتاج في مواجهة تحديات المستقبل إلى بناء بيتها الداخلي وتوظيف الطاقات البشرية المهملة التي تملكها في الداخل والخارج عبر إعادة ترتيب العلاقة بين الديني والعلماني، والتأكد من أن الطاقات النفسية والروحية للتيار الإسلامي الداخلي تصب في عملية بناء مؤسسات المجتمع الحديثة، وأن هامش الحريات السياسية كاف لبدء حوار صريح حول قضايا التعددية الدينية وحقوق المواطنة والمشاركة النسوية والحريات السياسية، وقضايا التنمية والإعمار والإصلاح.

هل ستتمكن القيادة السورية من التعامل مع تحديات اللحظة الراهنة من خلال رؤية مستقبلية تستحضر دور الإسلام الحيوي في تكوين الثقافة الشعبية في سوريا ومتطلبات الإصلاح الثقافي والسياسي والديني، أم أنها ستتجاهل البعد الداخلي، كما فعلت خلال العقدين الماضيين، لتعول في حساباتها على البعد الخارجي للسياسية السورية؟ سؤال ستبينه دون شك خطوات الإصلاح الرسمية القادمة، وربما تحركات الناشطين السوريين في الداخل والخارج.

لؤي صافي

نشرت المقالة في الصحف والمواقع الإخبارية التالية

القدس العربي
الرأي
صفحات سورية
أخبار الشرق

<<النص الكامل

الخميس، يونيو 29، 2006

كي لا تفسد الخلافات السياسية للود قضية


تعرضت الدول العربية على مدار نصف القرن الماضي إلى سلسلة من الإخفاقات السياسية والعسكرية في مواجه تحديات الداخل والخارج. فقد عجزت الأنظمة العربية عن تحقيق الوحدة التي تغنت بها طويلا، وجعلتها شعارا وطنيا لها، بدءا بالوحدة الثنائية بين مصر وسوريا، ومرورا بمشروع الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق، ومشروع الوحدة الثلاثية بين سوريا ومصر وليبيا، ومشروع الوحدة بين مصر وليبيا والسودان، وانتهاء بالوحدة الثنائية بين سوريا والعراق التي لم يكتب لها النجاح رغم تشابه الرؤى السياسية. وتكاد الوحدة اليمنية تشكل حالة الإستثناء الوحيدة التي تبعث الأمل في إمكانية الوحدة.

كذلك أخفـقت الأنظمة العربية في تحقيق النصر في سلسلة الحروب التي خاضتها مع أعدائها المتربصين بها، بدءا من حرب حزيران، ومرورا بحرب تشرين التي شهدت نصرا جزئيا، وانتهاء بحرب العراق. ويكاد تحرير الجنوب اللبناني بجهود رجالات المقاومة يشكل الاستثناء الوحيد الذي يظهر إمكانية النصر عندما تجتمع القلوب، ويصبح المواطن شريكا في بناء الوطن والدفاع عن حياضه.

وبالمثل أخفقت الدول العربية في تطوير أنظمة تعاون سياسي واقتصادي. فجامعة الدول العربية أقرب في أنشطتها إلى منظمة متخصصة في تنظيم المؤتمرات الدورية التي يتبادل الحضور فيها الآراء منها إلى مؤسسة سياسية عربية تسعى إلى تطوير سياسات أمنية واقتصادية مشتركة، والسوق العربية المشتركة لازالت حلما بعيد المنال.

سلسلة الإخفاقات التي شكلت والوعي العربي خلال العقود الخمسة الماضية أضعفت شعور المواطن العربي بالمسؤولية الوطنية، وأضاعت ثقته بنفسه وبقدرته على بناء الداخل ومواجهة تحديات الخارج، وحولته إلى مراقب للأحداث، وناقد لاذع لا يملك إلا الشكوى وإلقاء التهم جزافا، وتحميل مسؤولية عجزه وفشله على الإنظمة العربية تارة، والغربية تارة أخرى، دون استشعار أي مسؤولية شخصية.

يكمن، في تقديري، موطن الفشل في الحياة السياسية العربية في القطعية والوثوقية في التعامل مع مسائل الخلاف وقضايا التنوع والاختلاف، وغياب المهارة في الحوار، والميل إلى استخدام القوة والعنف في حل المشكلات. فالقطعية والوثوق يحولان دون الرغبة في فهم الرأي الآخر واحترام الموقف المغاير، وغياب المهارة في الحوار تحول دون تفاهم القوى السياسية والاجتماعية المختلفة، وتمنع تناصفها عبر حلول تعكس رؤاها المتخلفة وحاجاتها المتنوعة.

القطعية في الحكم على الأحداث، والوثوق من الصواب المطلق للموقف الذي يتخذه الفرد والجماعة يجعلان التفاهم بين الجماعات الاجتماعية والسياسية والدينية المختلفة مستحيلا، ويحولان خلاف الرأي والرؤية إلى اختلاف في القلوب وفي الولاءات، ويحيلان المغاير في الفهم والرأي إلى خائن عميل في الدوائر العلمانية أو إلى كافر زنديق في الدوائر الدينية، والمشكلة هي هي، مشكلة الفهم الوثوقي.

الوثوقية في القناعات والقطعية في الأحكام يجعلان الحوار صعبا، والتعاون مستحيلا، ويحيلان الخلافات الفكرية إلى انقسامات اجتماعية وصراعات سياسية، وبالتالي يجعلان الوحدة الوطنية حلما بعيد المنان، ناهيك عن الوحدة العربية بين دول مستقلة. فلا عجب إذن أن عجزت الأنظمة العربية خلال العقود الماضية عن تحقيق الوحدة بين الدول المستقلة بعد أن فشلت في تحقيق الوحدة الوطنية داخل بلدانها وبناء السلم الاجتماعي بين مواطنيها. ولا غرابة في أن يخفق العرب في التصدي إلى العدوان الخارجي، بعد أن أصبح بأسهم بينهم شديد، فاستخف بهم أعداءهم المتربصين.

وتزداد حدة الصراع والانقسام بين الإخوة يوما بعد يوم، وتزداد معها المنظومة العربية تشرذما وضعفا، كما تزداد شراسة الطامعين وتسلطهم. ولا مخرج من المأزق الحالي إلا في الوحدة الوطنية والوفاق بين القوى السياسية الفاعلة، والتزام الجميع بقواعد للعمل السياسي تقوم على احترام الخلاف، وإبقائه خلافا على مستوى الرأي والفكرة، لا على مستوى القلوب، والاحتكام إلى القوانين التي تحفظ الحقوق، وتمنع الظلم والعدوان، بدلا من الاحتكام إلى القوة والعنف، والاعتماد على إرادة الشعوب وخياراتها المصيرية، بدلا من إملاءات الطامع المستخف.
استخدام القوة والعنف للحفاظ على تماسك المجتمع المدني قد يمنع الانقسام الداخلي إلى حين، لكنه يحيل المجتمع إلى بركان هامد قابل للإشتعال وإحراق الأخضر واليابس لدى تعرضه لأية هزة، كما يحدث اليوم في العراق. والتعاون والتعاضد بين القوى السياسية يحيلان المجتمع الصغير إلى قوة اجتماعية وسياسية وعسكرية هائلة، ويمكنانه من تحقيق الحرية والسيادة له والكرامة لأبنائه، كما حدث للمقاومة الباسلة في لبنان، التي استمدت قوتها من تماسكها الداخلي، ومن التفاف الشعب اللبناني بمختلف فئاته حولها، وتكاتف شعوب المنطقة العربية والإسلامية معها، ودعم كفاحها لتحقيق استقلالها وسيادتها على كامل ترابها.

الوحدة الوطنية لا يمكن أن تنبنى على التطابق في الرؤى أو الآراء، بل على احترام الخلافات، وإبقائها على مستوى الخطاب الفكري والسياسي، ورفض تحويلها إلى خلافات شخصية واتهامات وطنية أو أخلاقية. كذلك فإنها تنبنى على الوفاق الوطني والاحترام المتبادل بين المواطنين على اختلاف انتماءاتهم الدينية والفكرية والاجتماعية، والاعتراف بحقهم في بناء الوطن. والوحدة العربية لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال تحقيق وحدة وطنية بين أبناء المجتمعات السياسية العربية المختلفة. وسيادة الدول العربية واستقلالها لن يكتمل إلا عبر تحقيق درجة عالية من التعاون السياسي والاجتماعي والأمني.

حلقات الوفاق والوحدة والسيادة حلقات متداخلة يأخذ بعضها برقاب بعضها الأخر، تجتمع معا لتحول الإنسان الفرد من دائرة الرعية إلى دائرة المواطنة، وتحول المجتمع العربي من مجتمع ينقسم بين سادة وعبيد، إلى مجمع أحرار يثريه تعدد آراء ابناءه ومواقفهم وقراراتهم، ولاتفسد خلافاتهم السياسية للود قضية.

لؤي صافي

نشرت المقالة في الصحف والدوريات التالية

الحوار العربي
مقاربات
كلنا شركاء
المرصد
اللواء
مجلة ليلى




<<النص الكامل

الأحد، يونيو 18، 2006

أمل التحول الديمقراطي وخيار الوفاق الوطني السوري


يستمر التصعيد بين النظام السوري وقوى المعارضة الداعية إلى إطلاق الحريات السياسية، وتتقلص الآمال تدريجيا بإمكانية تحقيق إصلاح سلمي يحقق للبلاد تحولا ديمقراطيا دون زعزعة استقرارها الداخلي.

النظام السوري متردد في إطلاق الحريات السياسية والمدنية، يقدم خطوة ليؤخر أخرى. فتراه تارة يلجم أجهزته الأمنية ويوفر هامشا من الحرية للنقد السياسي والمبادرات الأهلية، ليعود تارة أخرى فيشدد قبضته ويحاصر نقاده. ويعود هذا التردد في تقديرنا إلى الحوار الداخلي بين قياداته، واختلاف المقاربات بين فريق يميل إلى تحديث طرائق العمل السياسي ومؤسساته بما يسمح بتوسيع دائرة المشاركة السياسية، وآخر يرغب في إبقاء الأمور على حالها، ويخشى أن يؤدي الانفتاح السياسي إلى إضعاف هيمنة الدولة وإلى تفلت سياسي.

وبالمثل فإن المعارضة السورية مترددة بين المطالبة بهامش أوسع من الحريات يسمح لها بمشاركة أكبر في الحياة السياسية، وصولا إلى تبادل سلمي للسلطة، وبين الدعوة إلى إسقاط النظام السياسي عبر تمرد شعبي وانقلاب عسكري، كما هو حال جبهة الخلاص الوطني، أو عبر تدخل عسكري خارجي، كما هو حال حزب الإصلاح السوري ومن لف لفه. وينعكس اختلاف مواقف المعارضة في الانقسام الأخير بين مجموعة إعلان دمشق الذي لا زال يتمسك بخيار المشاركة، وجبهة الخلاص الوطني التي قررت أخيرا المواجهة المفتوحة مع النظام والدعوة لإسقاطه.

ويبدو أن تراجع الضغوط الأمريكية، وتقلص إمكانية توظيف تقرير برامرتز لزعزعة النظام السوري، قد عزز موقف الفريق المعارض للانفتاح السياسي، ودفع النظام إلى اتخاذ مواقف أكثر تشددا إزاء الأصوات الداعية لزيادة هامش الحريات، وربما يدفع المعارضة السياسية في الداخل إلى اتخاذ مواقف أكثر تشددا. مثل هذا التصعيد في المواقف لن يكون في مصلحة النظام أو المعارضة أو البلاد، بل يمكننا القول بأن التشدد في المواقف سيعيق إمكانيات تطوير البلاد سياسيا واقتصاديا، وسيجعل إمكانية الوصول إلى تحول سياسي سلمي مستحيلا.

فمعدل نمو الاقتصاد السوري لازال دون المستوى المطلوب لتوفير فرص للأعداد المتزايدة من الشباب الذين ينضمون سنويا إلى صفوف الباحثين عن عمل. ولم تعد الدولة في موقف يسمح لها بالحفاظ على أعداد الموظفين الحاليين، ناهيك عن زيادة جهازها الإداري لتوفير فرص للراغبين في العمل. والتناقص التدريجي في إنتاج النفط الذي تشكل عائداته 60% من الإنتاج القومي السوري سيزيد الحاجة إلى الاعتماد على القطاع الخاص والاستثمارات الأهلية.

النظام السوري يراهن على قدرته على تحرير الاقتصاد السوري دون الحاجة إلى تحرير الحياة السياسية، ويركز في جهوده التنموية على فتح المجال للاستثمار الأهلي والإصلاح الإداري. واضح أن هذه الجهود لم تثمر حتى الآن في جلب الاستثمار الخارجي المرتجى أو إدخال إصلاحات حقيقية على الجهاز الإداري الحكومي، على الرغم من عشرات القوانين وتعاقب ثلاث حكومات فنية (تكنوقراطية) منذ أن أعلن الرئيس بشار الأسد خطته الإصلاحية في عام 2000. وتعود الصعوبات في تشجيع الاستثمار إلى غياب الجهاز القانوني المستقل الذي يحفظ حقوق المستثمرين ويمتلك القدرة على إصدار أحكام قضائية رادعة في وجه المتنفذين، وتعود كذلك إلى غياب الصحافة الحرة التي تمتلك القدرة على فضح حالات الفساد والتقاعص في الجهاز الإداري.

المعارضة في الداخل تراهن، من جهتها، على أن يستجيب النظام السوري لمطالبها، في حين تراهن المعارضة في الخارج على تحرك الشارع السوري دعما لمطالبها. تحرك الشارع السوري مستبعد حاليا نظرا لغياب المؤسسات الأهلية المتحالفة مع النخبة المثقفة التي تدعو إلى الانفتاح السياسي، واستمرار ولاء قطاعات واسعة من الريف السوري للنظام القائم، الذي عمل خلال العقدين الماضيين على ردم الفجوة بين المدينة والريف.

مستقبل سوريا يجب أن لايحسم من خلال المراهنات، بل من خلال الشعور بالمسؤولية من قبل النظام والمعارضة. المطلوب الوصول إلى تفاهم وطني تتفق من خلاله القوى الوطنية على برنامج إصلاحي تدريجي، يزيد هامش الحريات دون أن يزعزع الاستقرار الداخلي. مستقبل سوريا يعتمد على بناء الوطن، ومشاركة المواطن السوري في الشأن العام هو الطريق الحقيقي لبناء الوطن. هذه المشاركة لن تتأتى إلا من خلال تفاهم النخب المثقفة والقيادات السياسية وصولا إلى تحول ديمقراطي عبر فترة انتقالية تسمح ببناء الثقة وتنمية القدرات واكتساب الخبرة في العمل السياسي التعددي.

النظام السوري يمتلك الآن زمام المبادرة لوضع حد للتصعيد، ويمتلك القدرة على إعادة الأمل في التحول الديمقراطي التدرجي، وذلك بالاستجابة إلى الأصوات الداعية إلى احترام حق المواطن السوري بتأسيس الأحزاب المستقلة والمؤسسات الأهلية الطوعية والمشاركة في النقد البناء لخطط الحكومة وممارساتها عبر إعلام حر. كذلك يمكن للجاليات السورية في أمريكا وأوربا، بما تمتلكه من خبرة في الحياة الديمقراطية في الغرب، وبما تمتلك من إمكانيات استثمارية وإدارية، أن تساهم في تعزيز الحياة الديمقراطية والمساهمة في بناء دولة المؤسسات والدعوة إلى حوار وطني لتطوير برنامج إصلاحي تتفق من خلاله القوى السياسية على خطوات عملية تسمح بإنجاز التحول الديمقراطي خلال فترة انتقالية، يتم من خلالها بناء الثقة وتحقيق مصالحة وطنية حقيقية، وضمان الحقوق السياسية والمدنية للجميع.

فهل يستجيب النظام السوري ويقرن تحرير الحياة الاقتصادية بتحرير الحياة السياسية؟ وهل تمارس الجاليات السورية دورها في العمل لتحقيق توافق وطني وتجنيب البلاد مخاطر التصعيد السياسي؟ وهل تتحمل القيادات السياسية والفكرية مسؤوليتها في بناء مستقبل البلاد بعيدا عن الرهانات؟ وهل يعود الأمل بتحول ديمقراطي يقوم على التوافق والوحدة الوطنية ليداعب مخيلة المواطن السوري من جديد؟

هذه أسئلة مهمة تنتظر أجابات واضحة ومبادرات خلاقة في الأشهر القادمة لتجنب الجمود الاقتصادي والفوضى السياسية

لؤي صافي

نشرت هذه المقالة في الصحف والمواقع الإخبارية التالية

القدس العربي
أخبار الشرق
الرأي
كلنا شركاء
ميدل إيست أونلاين
العرب أونلاين
صفحات سورية
مقاربات

<<النص الكامل

الأحد، مايو 14، 2006

الإصلاح في سوريا بين مخاوف النظام وهواجس المعارضة


سنوات خمس مضت على إعلان الرئيس السوري بشار الأسد برنامجه الإصلاحي ذي المنحى الأقتصادي والإداري، وإعلان المعارضة السورية مطالبها التي تركزت على التحول الديمقراطي والإصلاح السياسي، وسيرورة الإصلاح لا زالت دون مستوى تأكيدات النظام ورغبات المعارضة وتطلعات الشارع ،السوري. وتبين للجميع أن العملية الإصلاحية أكثر تعقيدا أوصعب منالا من كل الآمال والتوقعات وأن قدرة الحكومة والمعارضة على التحرك باتجاه الآخر أقل من المستوى الضروري والمطلوب للتعامل مع متطلبات الإصلاح والتغيير.

ترتبط مطالب الإصلاح بجملة من الأوضاع التي تميز المرحلة الراهنة من تطور المجتمع السوري، لعل أكثرها وضوحاً تلك التي تتعلق بتحرير العمل السياسي من هيمنة حزب البعث الحاكم أو أحزاب الجبهة القومية التي تخضع مباشرة إلى إملاءات حزب البعث. كما ترتبط دعوات الإصلاح بإطلاق حرية الصحافة، وإنهاء احتكار النشاط الإعلامي بالجرائد والمجلات التي تصدرها الدولة، والإعلام المرئي والمسموع الذي يخضع مباشرة لسلطة الحزب الواحد. وعلى الرغم من أن هذه المطالب تعود إلى لحظات قيام دولة الحزب الواحد في الستينيات، وتأسيس وزارة الإعلام التي استطاعت تكريس هيمنة صانعي القرار السياسي على وسائل الإعلام، فإن التبدلات التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي، وانهيار دولة الحزب الواحد في معظم بلدان أوربا الشرقية وآسيا وأمريكا الجنوبية أدت إلى زيادة حدة الأصوات الداعية إلى إصلاح النظام السياسي، والتي بلغت أوجها عقب تسلم بشار الأسد رئاسة الدولة السورية.

بين الإصلاح الإداري والسياسي

في خطاب ألقاه عقب أدائه قسم تسلم مسؤوليات رئاسة الجمهورية، حدد بشار الأسد معالم خطته الإصلاحية، وأكد عدداً من التصورات والمبادئ التي داعبت مخيال الشارع السوري، وأعطته أملاً جديدأ بواقع أفضل. فقد انتقد الرئيس الجديد العديد من الممارسات التي سادت خلال السنوات الأخيرة، وشدد على أهمية تغيير أساليب عمل أجهزة الدولة، وأكد على التزام إدارته بمبدأ الحوار، واحترام الحقوق، وسيادة القانون، وحرية الرأي والتعبير، وإصلاح الجهاز الإداري.

لاقى خطاب الرئيس تأييداً واسعاً في الأوساط الشعبية، وتنفس الناشطون السياسيون الصعداء، وتطلعوا إلى عهد جديد يقوم على الديمقراطية والتعددية الحزبية وحرية الصحافة والتعبير. وسارعت القوى السياسية إلى تأسيس المنتديات والدعوة إلى إصلاحات دستورية شاملة، ومحاربة الفساد المالي والإداري، وإنهاء إمتيازات الحرس القديم. ومع تأسيس المنتديات بدأت حرباً إعلامية حادة وشديدة على النظام السياسي القديم لم تستثني أحداً من رموزه، وتعالت الأصوات تطالب بتغيير الدستور وإلغاء صلاحيات حزب البعث الحاكم. ولم تكتف المعارضة بالدعوة إلى تغيير الدستور بل عمدت إلى تأسيس أحزاب سياسية أستعداداً لدخول حلبة الصراع السياسي.

لم تكتسب المعارضة السورية خلال تعاملها مع الدولة السورية الحديثة التي صلب عودها بعد عقود ثلاثة من الاستقرار السياسي، وأصبحت قادرة على كبح جماح المعارضة الثائرة بقوة وحنكة، أي مهارات جديدة، وانحصرت قدراتها على التعامل مع مؤسسات الدولة في أساليب الرفض والتمرد والتصعيد. ولم تدرك المعارضة أن التغيير السياسي ليس موقفاً عاطفياً، ولا هو سجال كلامي، بل عمل دؤوب مديد، ذي أهداف مرحلية، وخطوات محددة يأخذ الواحد منها برقاب الأخرى.
لقد قرأت المعارضة السورية خطاب القسم وفق مبادئ العمل السياسي التي سادت خلال الخمسينيات والستينيات، القائمة على منطق "كل شئ أو لا شئ" ومنطق "إذا لم تتفق معي فأنت ضدي" ومنطق "ما أدعيه هو الحق وما يدعيه غيرى هو الباطل" وغيرها من المبادئ التي شلت العمل السياسي وأدت إلى بروز دولة الحزب الواحد والرأي الواحد والبطل الواحد. لذلك كانت استجابة المعارضة للقسم استجابة عاطفية حالمة تنفيسية تسعى إلى تحقيق حلم الإصلاح عبر تاكيد الذات وإلغاء الخصم، والتنفيس عما امتلأت به الصدور من غضب وإحباط عبر عقود عديدة، وتحميل السلطة وأجهزتها المسؤولية الكاملة عن مثالب الحالة الراهنة.

لا شك أن النظام السوري يتحمل قسطا وافرا في تعثر خطوات الإصلاح وتلكؤ عملية التغيير المعلنة، بيد أن المعارضةتتحمل أيضا قدرا مساويا من المسؤولية نظرا لعجزها عن إدارة العملية السياسية والاستفادة من التغيرات التي نجمت عن تحولات أساسية في وجهة السلطة السياسية. فمن ناحية، أساءت المعارضة قراءة أولويات الإصلاح، ورأت في خطاب القسم دعوة إلى إصلاح شامل، في حين أن الرئيس الجديد شدد في خطابه على إصلاحات إدارية تهدف إلى تنمية الاقتصاد السوري المتدهور. كذلك أخطأت المعارضة في تقدير طبيعة التغيير الحاصل في النظام السياسي، وقدرات الرئيس الجديد على إحداث تغيير سياسي جذري، على افتراض أن التغيير الجذري هدف الإصلاح المنشود.

لقد أدت عقود ثلاثة شهدت صراعات دامية على السلطة إلى إضعاف قوى المعارضة وعزلها عن قواعدها الشعبية. فحركة لإخوان المسلمين فقدت بنيتها الحزبية وقواعدها الشعبية بعد صراع دام، وتحولت إلى منابر خطابية في المنفى. واقتصر دور قادة الإخوان على ترديد شعارات تعبوية، والدعوة إلى الممارسة الديمقراطية والتعددية الحزبية. ولا تمتلك قيادات حزب الإخوان المسلمين برنامجاً إصلاحيا تقدمه، كما فقدت مصداقيتها السياسية نتيجة اعتمادها الكامل على قوة السلاح خلال صراعها مع حزب البعث الحاكم، وفقدت معها قواعدها الشعبية نتيجة الصراع الدامي الذي خاضته في السبعينيات.

تيار المعارضة الثاني، والذي يملك وجوداً محدوداً على الساحة السياسية، هو التيار الذي يقوده رياض الترك، وهو المعارض الجرئ الذي أمضى سنوات طويلة في السجن في عهد حافظ الأسد، ليعود إلى ساحة العمل السياسي لفترة قصيرة عقب الإفراج عنه، فيمن أفرج عنهم إثر تسلم بشار الأسد رئاسة الجمهورية. اقتصرت جهود الترك بعد خروجه من سجنه الطويل على التنديد بحكم حافظ الأسد، ونعته المتكرر في خطبه وأحاديثة بـ"الديكتاتور،" مثيراً بذلك حفيظة شريحة واسعة من مؤيديه الذين يرون فيه "قائداً ملهماًً خالدا.ً" كذلك يفتقد الحزب دعما شعبيا، يعتمد بصورة أساسية على دعم شريحة واسعة من الأكراد السوريين الرفضين للتوجه القومي العروبي للنظام.

التيار الشيوعي الذي يقوده رياض الترك، وهو تيار منشق عن الحزب الشيوعي السوري الذي قاده خالد بكداش وانخرط قبيل وفاته في الجبهة القومية في اواخر السبعينيات من القرن المنصرم، فقد الكثير من قدراته التنظيرية وخطابه التحليلي، كما فقد القدرة على تقديم بدائل وحلول للتعامل مع المشكلات الاجتماعية والاقتصادية المتفاقمة في البلاد. فالفكر الشيوعي فقد مصداقيته بعد تراجع الاتحاد السوفييتي في نهاية الثمانينيات، وانهيار المنظومة الاشتراكية. لذلك نجد أن الخطاب الشيوعي المعارض اليوم يتشابه كثيراً مع خطابات القوى السياسية المعارضة الأخرى.

التيار الثالث الذي برز بوضوح خلال السنة الأولى من لحكم الرئيس بشار الأسد هو التيار الذي قاده رياض سيف، وهو صناعي سوري ناجح، انخرط في العمل السياسي في التسعينيات، وفاز في مقعد في مجلس النواب السوري، ونشط بعد انتقال السلطة من حافظ إلى بشار الأسد. تفاعل رياض سيف كثيراً مع خطاب القسم، ووجد في عفوية الرئيس الجديد وروحه الشابة المنفتحة على الإصلاح والتغيير حافزاً كبيراً للقيام بخطواط إصلاحية، وليعلن عبر المنتدى السياسي الذي عرف بمنتدى الحوار الوطني قيام حزب سياسي تحت اسم حركة السلم الاجتماعي. استعان سيف بعدد من المثقفين السوريين، لعل أبرزهم عميد كلية الاقتصاد السابق عارف دليلة والمفكر السوري المغترب برهان غليون.

اتصف الخطاب الذي قدمته حركة السلم الاجتماعي بالموقف الحدي الداعي إلى الإصلاح الشامل، بدءاً من تغيير الدستور. وعلى الرغم من النبرة الإيجابية التي غلبت على أطروحات الحركة، فقد وجد خصومها في أروقة السلطة في دعوتها الإصلاحية الشمولية، وفي منحاها الليبرالي وتأكيدها على تنشيط مؤسسات المجتمع المدني والخصصة الاقتصادية خطراً على مصالحهم. وتمكن الخصوم أخيراً من تحريض الرئيس الجديد لتضييق الخناق على المنتديات السياسية وبراعم المعارضة المتفتحة، مستفيدين من حدة خطابها وجذرية أطروحاتها النقدية.

أولويات المسار الإصلاحي

تصر المعارضة على بدء الإصلاح من قمة الهرم السياسي داعية إلى تعديل الدستور واستبدال حكم الحزب الوالحد بتعددية حزبية، على الرغم من عدم امتلاكها القواعد الشعبية اللازمة لممارسة الضغوط على السلطة الحاكمة، معولة على الميول الإصلاحية للرئيس الجديد وعلى التوجهات العالمية الداعية إلى الانفتاح الاقتصادي والسياسي، في حين يصر الرئيس الأسد على إعطاء الإصلاح الإداري الأولوية في برنامجه الإصلاحي، باعتبار أن التنمية الاقتصادية شرط أساسي للاستقرار الاقتصادي، وأن الانفتاح السياسي في أجواء الاضرابات السياسية قمين بإضعاف الدولة وإشاعة الفوضى.
تظهر النظرة الأولية أن مشروع الإصلاح السياسي الذي تقوده المعارضة ومشروع الإصلاح الإداري الذي تقوده الحكومة يواجهان مصاعب جمة، ويسيران في طريق ملئ بالمزالق والعثرات. فقد استطاع حراس النظام القائم ومراكز القوى فيه من سحب البساط من تحت أرجل المعارضة، واستعادة المساحة المحدودة من حرية التحرك السياسي والإعلامي التي استلتها المعارضة خلال السنة الأولى من حكم بشار الأسد. في حين لم تؤد مبادرات الرئيس السوري إلى إحداث تقدم يذكر في طريق الإصلاح الإداري والتنمية الاقتصادي، على الرغم من عشرات المراسيم والقوانين الذي استحدثت، والتعديلات الوزارية التي أجريت، والتي وضعت في مراكز القرار الوزاري عدداً كبيراً من الوزارء الذي اختيروا على أساس الخبرة والدراية، لا النفوذ والمرتبة الحزبية.

التمكين لا يعنى بالضرورة نقل الثقل السياسي كاملا من قوة سياسية إلى قوة سياسية أخرى، بل توزيع النفوذ السياسي بين القوى الاجتماعية المختلفة، و خلق توازنات في القدرات السياسية تتيح المجال لتنافس البرامج الإصلاحية والأفكار، وتسمح لمن يريد خدمة المصلحة العامة من عرض برامجه على الرأي العام، وإيجاد مصداقية سياسية من خلال تحقيق برامجه ووعوده. ولعل الطريقة المتاحة اليوم لخلق توازنات سياسية، تعديل قانون الأحزاب، والسماح بالتعددية الحربية. وبالمثل تحتاج الخطوات الإصلاحية إلى السماح بحرية الصحافة، والسماح للصحف بنقد السياسات المحلية، والخطط الوزارية، والممارسات العامة.

ومن ناحية أخرى، يتطلب الجهد الإصلاحي أن تستشعر المعارضة مسؤولية الكلمة، وتتبع نهجاً تدريجياً في الإصلاح، وتعيد ترتيب أولوياتها بحيث تتبنى برامج إصلاحية تركز على مسارت الإصلاح التعليمي والإداري والقانوني قبل الحديث عن إصلاح شامل لا تمتلك شروطه، ولا القدرات العملية اللازمة لتحقيقه. كذلك يجب على قيادات المعارضة أن تفرق بين العمل الإصلاحي والعمل الثوري الانقلابي. ففي حين يمكن للقوى المنتصرة عبر ثورة شعبية أو انقلاب عسكري فرض رؤيتها، يتم العمل الإصلاحي من خلال سجال بين السلطة والمعارضة، وبالتالي فإنه يتطلب مهارة سياسية تقوم على أساس المناصفة (التحرك باتجاه المنتصف) مع السلطة. هذا يعنى أن تكون المعارضة مستعدة للتحرك باتجاه السلطة خطوة في الوقت التي تطالب السلطة بالتحرك خطوة استجابة لمطالبها.

المطلوب من المعارضة في سوريا تقديم تصور لإعادة بناء مؤسسات المجتمع بما يتناسب والتطورات الداخلية والخارجية الراهنة، وبما يسمح ببناء مؤسسات تحقق المصلحة العامة وتحفظ حقوق الأفراد. وهذا يعني أن تقوم المعارضة بوضع أولويات ضمن تصور لما هو ممكن اليوم، وما يتطلب تحقيقه مزيداً من الجهد العملي لبناء المؤسسات الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية، قبل المطالبة بالتغيير الشامل. ويعني أيضاً أن تعمل المعارضة على بناء مصداقيتها لدى الشارع السوري لا من خلال الخطب والشعارات، بل من خلال المبادرات والإنجازات.

وبالمثل على الحكومة إدراك أن قدرة الدولة ومؤسساتها على تطوير الحياة الاقتصادة وتحفيز الإبداع والإنتاج والعمل يتطلب النظر إلى ترابط مسارات الإصلاح وبناء المؤسسة القانونية، وتنشيط مؤسسات المجتمع المدني، وبالتالي تشغيل مبدأ توازن القوى الضروري لإيجاد آليات لمنع الفساد وتحفيز الإنتاج والعمل.

ويبقى مصير الإصلاح في سوريا مرهوناً بتكون إرادة شعبية للإصلاح، نابعة من احتياجات أفراد المجتمع من جهة، ومن تزايد الوعي الشعبي، لا من طموحات فردية أو حزبية ضيقة. ويبقى السؤال المهم اليوم بعد ثلاث سنوات عن حديث الإصلاح دون جواب: هل تتشكل مطالب الإصلاح الشعبي ضمن عملية متدرجة ترعاها الحكومة السورية بالتعاون مع المعارضة، أم تحت تزايد الضغوط الاقتصادية
والسياسية في الداخل والخارج؟

لؤي صافي

<<النص الكامل