تأملات <<

مقالات وتعليقات لؤي صافي على الأحداث الجارية وعلى قضايا الإسلام والحداثة وحقوق الإنسان والمشاركة السياسية.

الأحد، يوليو 09، 2006

إخوان سوريا والمراجعة التي لم تكتمل


يعود الإخوان المسلمون السوريون إلى الساحة السياسية في مغامرة جديدة لتقويض أركان النظام السياسي السوري. ويؤكد الإخوان نبذهم لوسائل العنف، وتبنيهم قواعد العمل السياسي الديمقراطي، وفق برنامج سياسي يحمل عنوان "المشروع الحضاري لسوريا المستقبل" تم إعلانه قبل عامين.

التوجه الديمقراطي الجديد لم تصاحبه أي مراجعة جدّية لتجربة الإخوان السياسية السابقة التي انتهت قبل ربع قرن بصدام مسلح أحرق البلاد وأهلك العباد، راح ضحيته الآلاف من القتلى والمسجونين والمبعدين. برنامج الإخوان السياسي الجديد يتحدث عن مراجعة ويعترف بالمجزرة التي راح ضحيتها طلاب مدرسة ضباط المدفعية في حلب عام 1979، لكنه يلقي بمسؤولية الأحداث الدامية على "ثلة من الشباب محدودة العدد" أسماهم بالطليعة المقاتلة، نافيا أن تكون لهم أية صلة بجماعة الإخوان.

مجزرة مدرسة المدفعية كانت جزءا من مسلسل العنف الذي ارتكبته آنذاك جماعات من الإسلاميين، عرفت باسم الطليعة المقاتلة، شمل اغتيال العشرات من المثقفين وأساتذة الجامعات والناشطين السياسيين، واستهدف مراكز للشرطة والأمن، وانتهى بصدامات دموية مع قوى الأمن في حماة، راح ضحيتها أعداد كبيرة قدرتها منظمة العفو الدولية بالآلاف.

وسواء أقرت قيادة الإخوان أو نفت وجود علاقة رسمية بينها وبين الطليعة المقاتلة، فإن صدق المراجعة يتطلب الإقرار بأن "ثلة الشباب" التي قادت أعمال العنف، خرجت من رحم جماعة الإخوان وتفاعلت مع أطروحات قادتها، وفي مقدمتهم سعيد الحوى، التي شكلت كتاباته الأرضية الفكرية والأخلاقية التي مهدت للصدام المسلح، وبررت استخدام العنف ضد النظام السياسي القائم.

استخدام العنف في التغيير السياسي كان أحد الأطروحات المركزية في كتابات سعيد الحوى، المنظر الرئيسي للإخوان خلال الستينيات والسبعينيات. ففي كتابه "جند الله ثقافة وأخلاقا" يقرر الحوى أن "المسلمون في العالم الإسلامي في حالة ردة" وأن "أجهزة الحكم كلها تقريبا آلت إلى أيدي مرتدين أو منافقين أو كافريين أصليين." ويؤكد أن المخرج من حالة الردة يكمن في تشكيل حزب يعمل "لإنهاء الردة والمرتدين." ويصر الحوى على أن العلاقة الوحيدة التي يمكن أن تقوم بين الحزب الذي يمثل الإسلام والمرتدين الصدام والعنف: "إن الأصل في علاقتنا مع هؤلاء جميعا الحرب الشاملة".

وفي كتابه "المدخل لجماعة الإخوان المسلمين" يحذر الحوى من مغبة قبول التصورات التي لا تتبناها الجماعة، والتي يعتبرها من "مظاهر رواسب الجاهلية" ومن "معوقات النضج الإسلامي" فيقول: "ومن رواسب الجاهلية ... استعمالنا لتعبيرات غيرنا، وقبولنا لتصوراته سواء في تقسيم الناس والنظر إليهم، أو باستعمالنا تعبيراتهم في المدح والذم: ثوري، انتهازي، لا عنف، نقد ذ اتي، برجوازي، رأسمالي، اشتراكي، بروليتاري."

ولا يعنينا في هذه العجالة مناقشة المفاهيم التي يسوقها الكاتب، بل الإشارة إلى القطعية في التعامل مع التعددية الفكرية والسياسية، والإصرار على عزل أتباع الجماعة عن محيطهم الفكري والسياسي من خلال التنديد بمفاهيم أساسية لقراءة الواقع المحيط والتعامل معه، والدخول في تقويم ونقد للذات، والدعوة إلى "حرب شاملة" بين الجماعة والنظام السياسي. وبالتالي فلا غرابة في أن يقود تنظير كهذا "ثلة من الشباب" إلى الصدام المسلح مع النظام السياسي، وأن يصبح الحوار والمشاركة السياسية خيارا مرفوضا.

إن المراجعة التي يشير إليها برنامج الإخوان السياسي الجديد باقتضاب مراجعة ناقصة، لم تكتمل عراها بعد. فلا يكفي أن يقوم فصيل سياسي يريد أن يشارك في التحول الديمقراطي، بل يسعى إلى أن يقود هذا التحول، بمراجعة مفردات خطابه السياسي، بل يلزمه مراجعة كتاباته التنظيرية، ومنطلقاته النظرية، ومناهج إعداد قواعده الشعبية والتنظيمية.

وتتأكد أهمية هذه المراجعة لأن الأخوان لا يرون في أنفسهم تنظيما سياسيا كسائر التنظيمات، بل جماعة إسلامية تشكل النواة التنظيمية للمجتمع الإسلامي برمته. وهذا ما يدفع الإخوان إلى ربط الإعداد الثقافي بالإعداد السياسي والتنظيمي، ويعزل، من جهة أخرى، تطور أطروحات الإخوان السياسية عن تطور الإطروحات في دائرة الفكر السياسي العام.

ومن هنا فإن ربط الإخوان بين المؤسسة الاجتماعية المهتمة بقضايا الثقافة والتعليم والتوجيه، وبين المؤسسة السياسية المهتمة بقضايا السلطة والمصالح العامة، يتعارض مع العمل في إطار تعددية ديمقرطية سياسية. ولأن في مقدمة مطالب المعارضة إلغاء هيمنة حزب البعث على المؤسسات الاجتماعية، كالنقابات والاتحادات، فإن على الإخوان الذين يدعون التزامهم بالديمقراطية التعددية المبادرة إلى طرح أنفسهم على أنهم حزب سياسي يتحدث باسم أعضاءه ومناصريه، والتخلي علانية عن مفهوم الجماعة التي تسعى إلى التنامي لاحتواء المجتمع برمته.

تخبط الإخوان مؤخرا بين الانضمام إلى إعلان دمشق والالتزام بالعملية الديمقراطية والوفاق الوطني من جهة، والانخراط في تحالفات تهدف إلى اسقاط النظام من جهة أخرى، يؤكد أن المراجعة المطلوبة لم تتحقق حتى الآن، وأن المراجعة التي يشير إليها الإخوان لم تتجاوز مستوى الخطاب السياسي العام.

التطورات السياسية الأخيرة تدعونا للتسائل عن مدى تفاعل القيادة الإخوانية مع روح العمل الديمقراطي ومتطلباته. لقد فاجأ الإخوان الجميع، بدءا بزعماء إعلان دمشق، بدخولهم في حلف رسمي مع عبد الحليم خدام عقب إعلان الأخير رغبته باسقاط النظام، ولمّا تمض أشهر قليلة على انضمامهم لإعلان دمشق، وتصريحم بالدعم الكامل له، في بيان رسمي صدر في خريف 2005 . وخرج مراقب الإخوان ليشتكي على الملأ عبر قناة الجزيرة من طول الانتظار ونفاذ الصبر. وليدعو متحدثهم الرسمي في حوار مع قناة الحرة الفضائية إلى انتفاضة شعبية، مذكرا بقدرة الشعب على التحرك كما فعل في سبعينيات القرن الماضي!

تغيير النهج السياسي للإخوان يتطلب أكثر من تغيير للخطاب السياسي. فهو يتطلب أولا تغييرا جذريا في كثير من المفاهيم الاجتماعية والثقافية والسياسية، ويتطلب ثانيا إعادة ترتيب العلاقة بين البنية السياسية والاجتماعية للجماعة، لتحرير المؤسسات الاجتماعية والثقافية من هيمنة المؤسسة السياسية، وهو بحاجة أخيرا إلى التزام قيادة الإخوان بمبادئ العمل الديمقراطي، وانضباطهم بمتطلبات السلم الأهلي.

لؤي صافي