تأملات <<

مقالات وتعليقات لؤي صافي على الأحداث الجارية وعلى قضايا الإسلام والحداثة وحقوق الإنسان والمشاركة السياسية.

الأحد، مايو 14، 2006

الإصلاح في سوريا بين مخاوف النظام وهواجس المعارضة


سنوات خمس مضت على إعلان الرئيس السوري بشار الأسد برنامجه الإصلاحي ذي المنحى الأقتصادي والإداري، وإعلان المعارضة السورية مطالبها التي تركزت على التحول الديمقراطي والإصلاح السياسي، وسيرورة الإصلاح لا زالت دون مستوى تأكيدات النظام ورغبات المعارضة وتطلعات الشارع ،السوري. وتبين للجميع أن العملية الإصلاحية أكثر تعقيدا أوصعب منالا من كل الآمال والتوقعات وأن قدرة الحكومة والمعارضة على التحرك باتجاه الآخر أقل من المستوى الضروري والمطلوب للتعامل مع متطلبات الإصلاح والتغيير.

ترتبط مطالب الإصلاح بجملة من الأوضاع التي تميز المرحلة الراهنة من تطور المجتمع السوري، لعل أكثرها وضوحاً تلك التي تتعلق بتحرير العمل السياسي من هيمنة حزب البعث الحاكم أو أحزاب الجبهة القومية التي تخضع مباشرة إلى إملاءات حزب البعث. كما ترتبط دعوات الإصلاح بإطلاق حرية الصحافة، وإنهاء احتكار النشاط الإعلامي بالجرائد والمجلات التي تصدرها الدولة، والإعلام المرئي والمسموع الذي يخضع مباشرة لسلطة الحزب الواحد. وعلى الرغم من أن هذه المطالب تعود إلى لحظات قيام دولة الحزب الواحد في الستينيات، وتأسيس وزارة الإعلام التي استطاعت تكريس هيمنة صانعي القرار السياسي على وسائل الإعلام، فإن التبدلات التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي، وانهيار دولة الحزب الواحد في معظم بلدان أوربا الشرقية وآسيا وأمريكا الجنوبية أدت إلى زيادة حدة الأصوات الداعية إلى إصلاح النظام السياسي، والتي بلغت أوجها عقب تسلم بشار الأسد رئاسة الدولة السورية.

بين الإصلاح الإداري والسياسي

في خطاب ألقاه عقب أدائه قسم تسلم مسؤوليات رئاسة الجمهورية، حدد بشار الأسد معالم خطته الإصلاحية، وأكد عدداً من التصورات والمبادئ التي داعبت مخيال الشارع السوري، وأعطته أملاً جديدأ بواقع أفضل. فقد انتقد الرئيس الجديد العديد من الممارسات التي سادت خلال السنوات الأخيرة، وشدد على أهمية تغيير أساليب عمل أجهزة الدولة، وأكد على التزام إدارته بمبدأ الحوار، واحترام الحقوق، وسيادة القانون، وحرية الرأي والتعبير، وإصلاح الجهاز الإداري.

لاقى خطاب الرئيس تأييداً واسعاً في الأوساط الشعبية، وتنفس الناشطون السياسيون الصعداء، وتطلعوا إلى عهد جديد يقوم على الديمقراطية والتعددية الحزبية وحرية الصحافة والتعبير. وسارعت القوى السياسية إلى تأسيس المنتديات والدعوة إلى إصلاحات دستورية شاملة، ومحاربة الفساد المالي والإداري، وإنهاء إمتيازات الحرس القديم. ومع تأسيس المنتديات بدأت حرباً إعلامية حادة وشديدة على النظام السياسي القديم لم تستثني أحداً من رموزه، وتعالت الأصوات تطالب بتغيير الدستور وإلغاء صلاحيات حزب البعث الحاكم. ولم تكتف المعارضة بالدعوة إلى تغيير الدستور بل عمدت إلى تأسيس أحزاب سياسية أستعداداً لدخول حلبة الصراع السياسي.

لم تكتسب المعارضة السورية خلال تعاملها مع الدولة السورية الحديثة التي صلب عودها بعد عقود ثلاثة من الاستقرار السياسي، وأصبحت قادرة على كبح جماح المعارضة الثائرة بقوة وحنكة، أي مهارات جديدة، وانحصرت قدراتها على التعامل مع مؤسسات الدولة في أساليب الرفض والتمرد والتصعيد. ولم تدرك المعارضة أن التغيير السياسي ليس موقفاً عاطفياً، ولا هو سجال كلامي، بل عمل دؤوب مديد، ذي أهداف مرحلية، وخطوات محددة يأخذ الواحد منها برقاب الأخرى.
لقد قرأت المعارضة السورية خطاب القسم وفق مبادئ العمل السياسي التي سادت خلال الخمسينيات والستينيات، القائمة على منطق "كل شئ أو لا شئ" ومنطق "إذا لم تتفق معي فأنت ضدي" ومنطق "ما أدعيه هو الحق وما يدعيه غيرى هو الباطل" وغيرها من المبادئ التي شلت العمل السياسي وأدت إلى بروز دولة الحزب الواحد والرأي الواحد والبطل الواحد. لذلك كانت استجابة المعارضة للقسم استجابة عاطفية حالمة تنفيسية تسعى إلى تحقيق حلم الإصلاح عبر تاكيد الذات وإلغاء الخصم، والتنفيس عما امتلأت به الصدور من غضب وإحباط عبر عقود عديدة، وتحميل السلطة وأجهزتها المسؤولية الكاملة عن مثالب الحالة الراهنة.

لا شك أن النظام السوري يتحمل قسطا وافرا في تعثر خطوات الإصلاح وتلكؤ عملية التغيير المعلنة، بيد أن المعارضةتتحمل أيضا قدرا مساويا من المسؤولية نظرا لعجزها عن إدارة العملية السياسية والاستفادة من التغيرات التي نجمت عن تحولات أساسية في وجهة السلطة السياسية. فمن ناحية، أساءت المعارضة قراءة أولويات الإصلاح، ورأت في خطاب القسم دعوة إلى إصلاح شامل، في حين أن الرئيس الجديد شدد في خطابه على إصلاحات إدارية تهدف إلى تنمية الاقتصاد السوري المتدهور. كذلك أخطأت المعارضة في تقدير طبيعة التغيير الحاصل في النظام السياسي، وقدرات الرئيس الجديد على إحداث تغيير سياسي جذري، على افتراض أن التغيير الجذري هدف الإصلاح المنشود.

لقد أدت عقود ثلاثة شهدت صراعات دامية على السلطة إلى إضعاف قوى المعارضة وعزلها عن قواعدها الشعبية. فحركة لإخوان المسلمين فقدت بنيتها الحزبية وقواعدها الشعبية بعد صراع دام، وتحولت إلى منابر خطابية في المنفى. واقتصر دور قادة الإخوان على ترديد شعارات تعبوية، والدعوة إلى الممارسة الديمقراطية والتعددية الحزبية. ولا تمتلك قيادات حزب الإخوان المسلمين برنامجاً إصلاحيا تقدمه، كما فقدت مصداقيتها السياسية نتيجة اعتمادها الكامل على قوة السلاح خلال صراعها مع حزب البعث الحاكم، وفقدت معها قواعدها الشعبية نتيجة الصراع الدامي الذي خاضته في السبعينيات.

تيار المعارضة الثاني، والذي يملك وجوداً محدوداً على الساحة السياسية، هو التيار الذي يقوده رياض الترك، وهو المعارض الجرئ الذي أمضى سنوات طويلة في السجن في عهد حافظ الأسد، ليعود إلى ساحة العمل السياسي لفترة قصيرة عقب الإفراج عنه، فيمن أفرج عنهم إثر تسلم بشار الأسد رئاسة الجمهورية. اقتصرت جهود الترك بعد خروجه من سجنه الطويل على التنديد بحكم حافظ الأسد، ونعته المتكرر في خطبه وأحاديثة بـ"الديكتاتور،" مثيراً بذلك حفيظة شريحة واسعة من مؤيديه الذين يرون فيه "قائداً ملهماًً خالدا.ً" كذلك يفتقد الحزب دعما شعبيا، يعتمد بصورة أساسية على دعم شريحة واسعة من الأكراد السوريين الرفضين للتوجه القومي العروبي للنظام.

التيار الشيوعي الذي يقوده رياض الترك، وهو تيار منشق عن الحزب الشيوعي السوري الذي قاده خالد بكداش وانخرط قبيل وفاته في الجبهة القومية في اواخر السبعينيات من القرن المنصرم، فقد الكثير من قدراته التنظيرية وخطابه التحليلي، كما فقد القدرة على تقديم بدائل وحلول للتعامل مع المشكلات الاجتماعية والاقتصادية المتفاقمة في البلاد. فالفكر الشيوعي فقد مصداقيته بعد تراجع الاتحاد السوفييتي في نهاية الثمانينيات، وانهيار المنظومة الاشتراكية. لذلك نجد أن الخطاب الشيوعي المعارض اليوم يتشابه كثيراً مع خطابات القوى السياسية المعارضة الأخرى.

التيار الثالث الذي برز بوضوح خلال السنة الأولى من لحكم الرئيس بشار الأسد هو التيار الذي قاده رياض سيف، وهو صناعي سوري ناجح، انخرط في العمل السياسي في التسعينيات، وفاز في مقعد في مجلس النواب السوري، ونشط بعد انتقال السلطة من حافظ إلى بشار الأسد. تفاعل رياض سيف كثيراً مع خطاب القسم، ووجد في عفوية الرئيس الجديد وروحه الشابة المنفتحة على الإصلاح والتغيير حافزاً كبيراً للقيام بخطواط إصلاحية، وليعلن عبر المنتدى السياسي الذي عرف بمنتدى الحوار الوطني قيام حزب سياسي تحت اسم حركة السلم الاجتماعي. استعان سيف بعدد من المثقفين السوريين، لعل أبرزهم عميد كلية الاقتصاد السابق عارف دليلة والمفكر السوري المغترب برهان غليون.

اتصف الخطاب الذي قدمته حركة السلم الاجتماعي بالموقف الحدي الداعي إلى الإصلاح الشامل، بدءاً من تغيير الدستور. وعلى الرغم من النبرة الإيجابية التي غلبت على أطروحات الحركة، فقد وجد خصومها في أروقة السلطة في دعوتها الإصلاحية الشمولية، وفي منحاها الليبرالي وتأكيدها على تنشيط مؤسسات المجتمع المدني والخصصة الاقتصادية خطراً على مصالحهم. وتمكن الخصوم أخيراً من تحريض الرئيس الجديد لتضييق الخناق على المنتديات السياسية وبراعم المعارضة المتفتحة، مستفيدين من حدة خطابها وجذرية أطروحاتها النقدية.

أولويات المسار الإصلاحي

تصر المعارضة على بدء الإصلاح من قمة الهرم السياسي داعية إلى تعديل الدستور واستبدال حكم الحزب الوالحد بتعددية حزبية، على الرغم من عدم امتلاكها القواعد الشعبية اللازمة لممارسة الضغوط على السلطة الحاكمة، معولة على الميول الإصلاحية للرئيس الجديد وعلى التوجهات العالمية الداعية إلى الانفتاح الاقتصادي والسياسي، في حين يصر الرئيس الأسد على إعطاء الإصلاح الإداري الأولوية في برنامجه الإصلاحي، باعتبار أن التنمية الاقتصادية شرط أساسي للاستقرار الاقتصادي، وأن الانفتاح السياسي في أجواء الاضرابات السياسية قمين بإضعاف الدولة وإشاعة الفوضى.
تظهر النظرة الأولية أن مشروع الإصلاح السياسي الذي تقوده المعارضة ومشروع الإصلاح الإداري الذي تقوده الحكومة يواجهان مصاعب جمة، ويسيران في طريق ملئ بالمزالق والعثرات. فقد استطاع حراس النظام القائم ومراكز القوى فيه من سحب البساط من تحت أرجل المعارضة، واستعادة المساحة المحدودة من حرية التحرك السياسي والإعلامي التي استلتها المعارضة خلال السنة الأولى من حكم بشار الأسد. في حين لم تؤد مبادرات الرئيس السوري إلى إحداث تقدم يذكر في طريق الإصلاح الإداري والتنمية الاقتصادي، على الرغم من عشرات المراسيم والقوانين الذي استحدثت، والتعديلات الوزارية التي أجريت، والتي وضعت في مراكز القرار الوزاري عدداً كبيراً من الوزارء الذي اختيروا على أساس الخبرة والدراية، لا النفوذ والمرتبة الحزبية.

التمكين لا يعنى بالضرورة نقل الثقل السياسي كاملا من قوة سياسية إلى قوة سياسية أخرى، بل توزيع النفوذ السياسي بين القوى الاجتماعية المختلفة، و خلق توازنات في القدرات السياسية تتيح المجال لتنافس البرامج الإصلاحية والأفكار، وتسمح لمن يريد خدمة المصلحة العامة من عرض برامجه على الرأي العام، وإيجاد مصداقية سياسية من خلال تحقيق برامجه ووعوده. ولعل الطريقة المتاحة اليوم لخلق توازنات سياسية، تعديل قانون الأحزاب، والسماح بالتعددية الحربية. وبالمثل تحتاج الخطوات الإصلاحية إلى السماح بحرية الصحافة، والسماح للصحف بنقد السياسات المحلية، والخطط الوزارية، والممارسات العامة.

ومن ناحية أخرى، يتطلب الجهد الإصلاحي أن تستشعر المعارضة مسؤولية الكلمة، وتتبع نهجاً تدريجياً في الإصلاح، وتعيد ترتيب أولوياتها بحيث تتبنى برامج إصلاحية تركز على مسارت الإصلاح التعليمي والإداري والقانوني قبل الحديث عن إصلاح شامل لا تمتلك شروطه، ولا القدرات العملية اللازمة لتحقيقه. كذلك يجب على قيادات المعارضة أن تفرق بين العمل الإصلاحي والعمل الثوري الانقلابي. ففي حين يمكن للقوى المنتصرة عبر ثورة شعبية أو انقلاب عسكري فرض رؤيتها، يتم العمل الإصلاحي من خلال سجال بين السلطة والمعارضة، وبالتالي فإنه يتطلب مهارة سياسية تقوم على أساس المناصفة (التحرك باتجاه المنتصف) مع السلطة. هذا يعنى أن تكون المعارضة مستعدة للتحرك باتجاه السلطة خطوة في الوقت التي تطالب السلطة بالتحرك خطوة استجابة لمطالبها.

المطلوب من المعارضة في سوريا تقديم تصور لإعادة بناء مؤسسات المجتمع بما يتناسب والتطورات الداخلية والخارجية الراهنة، وبما يسمح ببناء مؤسسات تحقق المصلحة العامة وتحفظ حقوق الأفراد. وهذا يعني أن تقوم المعارضة بوضع أولويات ضمن تصور لما هو ممكن اليوم، وما يتطلب تحقيقه مزيداً من الجهد العملي لبناء المؤسسات الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية، قبل المطالبة بالتغيير الشامل. ويعني أيضاً أن تعمل المعارضة على بناء مصداقيتها لدى الشارع السوري لا من خلال الخطب والشعارات، بل من خلال المبادرات والإنجازات.

وبالمثل على الحكومة إدراك أن قدرة الدولة ومؤسساتها على تطوير الحياة الاقتصادة وتحفيز الإبداع والإنتاج والعمل يتطلب النظر إلى ترابط مسارات الإصلاح وبناء المؤسسة القانونية، وتنشيط مؤسسات المجتمع المدني، وبالتالي تشغيل مبدأ توازن القوى الضروري لإيجاد آليات لمنع الفساد وتحفيز الإنتاج والعمل.

ويبقى مصير الإصلاح في سوريا مرهوناً بتكون إرادة شعبية للإصلاح، نابعة من احتياجات أفراد المجتمع من جهة، ومن تزايد الوعي الشعبي، لا من طموحات فردية أو حزبية ضيقة. ويبقى السؤال المهم اليوم بعد ثلاث سنوات عن حديث الإصلاح دون جواب: هل تتشكل مطالب الإصلاح الشعبي ضمن عملية متدرجة ترعاها الحكومة السورية بالتعاون مع المعارضة، أم تحت تزايد الضغوط الاقتصادية
والسياسية في الداخل والخارج؟

لؤي صافي