تأملات <<

مقالات وتعليقات لؤي صافي على الأحداث الجارية وعلى قضايا الإسلام والحداثة وحقوق الإنسان والمشاركة السياسية.

الأربعاء، يوليو 05، 2006

مفارقات الديني والعلماني في الحراك السياسي السوري


أدت الجهود الحثيثة التي وظفتها النخب العلمانية الحاكمة في سوريا في الثمانييات في سعيها لمحاصرة المد الإسلامي في البلاد— إثر القضاء على جماعة الإخوان المسلمين وإبعاد قياداتها السياسية إلى الخارج— إلى إذكاء الحياة الإسلامية بدلا من حدها. وانتهت محاولات نزع الحجاب في الشوارع، ومنع الطالبات من إرتداء الزي الإسلامي في المدارس، إلى انتشار الحجاب وشيوع اللباس الإسلامي بين النساء السوريات، وتكريس الهوية التاريخية للمجتمع السوري.

وقرر النظام السوري إثر تشتت جهود العلمنة تغيير نهجه واستيعاب المد الإسلامي الذي عم المنطقة من خلال السماح بنشاطات الجماعات الدينية التقليدية المتناقضة مع توجهات الإسلام السياسي. ووجدت النخب العلمانية الحاكمة في الجماعات التقليدية ذات النظرة الدينية التاريخية حليفا في مواجهة الإسلام السياسي، المتمثل بالإخوان المسلمين، الذي لم يتوان عن توظيف الرؤية الدينية الضيقة لتبرير الحرب المعلنة ضد حزب البعث والنظام الحاكم.

حزب البعث العروبي، الذي فشل في إحداث تقارب سياسي واقتصادي مع الأنظمة العربية والعروبية، بما في ذلك النظام البعثي في العراق، وجد عمقه الاستراتيجي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، كما وجد في إسلاميي لبنان والإردن وفلسطين حلفاء أساسيين في وجه التهديد الإسرائيلي ومشاريع السلام الثنائية مع الدولة العبرية.

بيد أن القيادات العلمانية السورية التي استفادات من القدرات النفسية والروحية للتيار الإسلامي في مواجهة الضغوط الصهيونية، لا تبدو راغبة في توظيف هذه القدرات في عملية البناء الداخلي. فالتيار الإسلامي التقليدي المتحالف مع النظام حريص على البقاء بعيدا عن الحياة السياسية، وغير راغب في التعرض بالنقد للحياة العامة. ومع أن محاربة الفساد والدفاع عن الحقوق والحريات واجب إسلامي ديني، فإن التيار التقليدي يصر على إبقاء الأخلاقي في دائرة الحياة الشخصية والروحية، والعام في دائرة الحياة السياسية الخارجة عن دائرة تخصصه.

لذلك فإن الناشطين في الدفاع عن حقوق الإنسان في سوريا لا ينتمون في الغالب إلى الحركات الدينية، سواء منها التقليدي أو السياسي، بل إلى عدد من الحركات السياسية ذات التوجه العلماني، والتي رفضت الاحتكام إلى السلاح في خلافها مع السلطة الحاكمة، وأصرت على المعارضة السلمية على الرغم من تعرضها إلى حملات اعتقال وملاحقة أمنية شبيهة بتلك التي دفعت الإخوان إلى تبرير العنف المسلح في مواجهة القمع السياسي.

الإخوان المسلمون الذي غابوا عن الساحة السياسية بعد إشعال نار الحرب الأهلية التي أحرقتهم وأحرقت الكثير من المتعاطفين معهم، عادوا من جديد ليركبوا موجهة المد الديمقراطي والحقوقي الذي يجتاح المنطقة، وليعلنوا انضمامهم إلى إعلان دمشق وتبنيهم للعمل السياسي السلمي أولا، وليعلنوا بعد ذلك بقليل عن نفاذ صبرهم ورغبتهم العارمة في إسقاط النظام عبر تحالف مع عدو لدود حوله عداؤه للنظام السوري إلى حليف ودود.

من جهتها، سارعت أطراف إعلان دمشق إلى احتضان جماعة الإخوان ذات الخطاب الديمقراطي رغم الأخطار المترتبة على ذلك، ربما لشعورها بأن الإخوان المسلمين يمثلون البعد السياسي للتيار الإسلامي في سوريا، أو ربما تحرجا من استبعاد الفصيل السياسي الوحيد الذي يرتبط اسمه صراحة بالإسلام، "المكون الثقافي الأبرز لحياة الأمة والشعب،" وفقا للبند الثالث من الإعلان. ولم تطالب قيادات الإعلان الإخوان بتقديم تحليل تفصيلي للحقبة المنصرمة من حياتهم السياسية وعلاقتها بمستقبل العمل السياسي. ولم تستشعر قيادة جماعة الإخوان الحاجة إلى مراجعة التجربة الدموية التي خاضتها عبر مصارحة يتم من خلالها وضع النقاط على الحروف وتحديد الأخطاء، أو إعادة النظر في الأسس التنظيمية والمقولات السياسية والمناهج التربوية التي قادت الجماعة إلى الصدام مع السلطة.

الإسلام في سوريا لا يشكل اليوم، ولنكن صرحاء، طاقة أخلاقية وروحية إيجابية في اتجاه تطوير الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، كما هو حاله في تركيا وإيران وماليزيا، بل يشكل طاقة سلبية محافظة، موجهة نحو حماية التراث الديني والثقافي والحفاظ عليه دون مراجعة أو نظر أو تغيير. الطاقة الروحية الإسلامية طاقة مبددة ومتناهية مع الماضي الإسلامي، لا ترى في الإمكان أفضل مما كان، وبالتالي فهي لا تشغل نفسها بتقويم الماضي ونقد الحاضر إستعدادا لبناء المستقبل.

لذلك لن يكون الإسلام التقليدي في سوريا قادرا إلا على إعادة إنتاج المجتمع الإسلامي التاريخي كما هو، دون تغيير يذكر في مستوى العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقانونية. بل إننا نرجح أن يقوم بإعادة توليد البنى الطائفية والعشائرية والمحلية التي سبقت جهود الإصلاح الإسلامي والعلماني المعاصرة. والإسلام السياسي الذي تمثله جماعة الإخوان المسلمين لا زال يعيد توليد البنى التنظيمية والمحتوى الفكري الذي رافق مراحل تشكيله الأولى في مطلع القرن الماضي. ولا زال الإخوان يسمون أنفسهم جماعة لا حزبا، ويصرون، رغم اعتناقهم المبدأ الديمقراطي، على تمثيل الاتجاه الإسلامي برمته وتوظيف بنيته الاجتماعية في خدمة بنيتهم السياسية، خلافا لكل التقاليد والأعراف السياسية التي تتفق على أن البنية السياسية تهدف دائما إلى خدمة البنية الاجتماعية.

سوريا بحاجة ماسّة اليوم إلى تجاوز ثنائية الديني والعلماني من خلال ربط الالتزام الأخلاقي والروحي للأول بالانفتاح السياسي والتنظيمي للآخر. الترابط بين البعدين ليس جديدا على الوعي التاريخي والسياسي في المنطقة، بل نراه ماثلا بجلاء في صحيفة المدينة التي أسست لميثاق سياسي جمع بين قبائل المدينة ذات التزامات دينية متعددة على أساس مبادئ إنسانية مشتركة من إقامة للعدل ودفع للعدوان وحفظ للحقوق. والترابط بين البعدين الديني والعلماني هو الذي أسس لشراكة إنسانية بين المسلم والمسيحي واليهودي في بناء حضارة عالمية حفظت الحقوق ورعت الذمم واطلقت الطاقات الخلاقة وحفظت لكل ذي فضل فضله. والترابط بين الديني والعلماني هو الذي يدفع إلى تعاون الجاليات العربية والإسلامية في الغرب للدفاع عن الحقوق والتصدي لحملات التضليل.

سوريا اليوم بحاجة كذلك إلى تجاوز ثنائية الإسلام التقليدي والسياسي وصولا إلى رؤية حضارية للإلتزام الديني وتوظيف الطاقة الأخلاقية والروحية في إقامة العدل وتعاون أبناء المجتمع على اختلاف مللهم ونحلهم، لتطوير العلوم والفنون، وتنمية قدرات المجتع والدولة. وهذا يتطلب تشجيع الحوار النقدي البناء، وتحرير الحياة العامة من الأحادية الحزبية والتنظيمية والسماح لأبناء المجتمع بالمشاركة في بناء الوطن وتوظيف الطاقة الأخلاقية والروحية في الخدمات العامة، وبالتالي تنمية الاحترام المتبادل بين فئات المجتمع.

لقد استطاعت سوريا أن تكون معقلا أساسيا للدفاع عن الاستقلال والممانعة في وجه التوسع الصهيوني والأطماع الخارجية بفضل تحالفها مع القوى الإسلامية في المنطقة، وهي ستحتاج في مواجهة تحديات المستقبل إلى بناء بيتها الداخلي وتوظيف الطاقات البشرية المهملة التي تملكها في الداخل والخارج عبر إعادة ترتيب العلاقة بين الديني والعلماني، والتأكد من أن الطاقات النفسية والروحية للتيار الإسلامي الداخلي تصب في عملية بناء مؤسسات المجتمع الحديثة، وأن هامش الحريات السياسية كاف لبدء حوار صريح حول قضايا التعددية الدينية وحقوق المواطنة والمشاركة النسوية والحريات السياسية، وقضايا التنمية والإعمار والإصلاح.

هل ستتمكن القيادة السورية من التعامل مع تحديات اللحظة الراهنة من خلال رؤية مستقبلية تستحضر دور الإسلام الحيوي في تكوين الثقافة الشعبية في سوريا ومتطلبات الإصلاح الثقافي والسياسي والديني، أم أنها ستتجاهل البعد الداخلي، كما فعلت خلال العقدين الماضيين، لتعول في حساباتها على البعد الخارجي للسياسية السورية؟ سؤال ستبينه دون شك خطوات الإصلاح الرسمية القادمة، وربما تحركات الناشطين السوريين في الداخل والخارج.

لؤي صافي

نشرت المقالة في الصحف والمواقع الإخبارية التالية

القدس العربي
الرأي
صفحات سورية
أخبار الشرق